المشهد المصري تتنازعه عدة قوى تتعارض توجهاتها، ومصالحها بالتالي: هناك جماعات رجال المال والأعمال والطبقات والمصالح المرتبطة بها داخليًّا، وفي المحيط العربي والدولي، بما تمثله من احتكار للتجارة الداخلية والخارجية وتحريك السلع الإستراتيجية والأموال من وإلى مصر، مع ما يتطلبه ذلك من حماية قصوى، أمنية وتشريعية، وهناك جماعات الإسلام السياسي التي تعمل في الخفاء منذ أكثر من ثمانين عامًا، في العلن مرة وفي الخفاء مرات، مع ما يصاحبها من تمايزات في درجة قبول تيارات المجتمع والتفاعل معها، مثلما تفعل جماعة الإخوان المسلمين مثلاً، أو مخاصمتها وممارسة العنف ضدها كما في الجماعات الإسلامية المتطرفة والتنظيمات السلفية، إلى الإغراق في العزلة كما عند المتصوفة. وهناك تيار ليبرالي ضعيف، اشتد عوده نسبيًّا في السنوات الأخيرة وتصاعد مع تطور وسائل الاتصال التي أتاحت لفئات واسعة من الشباب الاتصال بالغرب والإطلاع على ما يحدث فيه، والمقارنة بين حاله وأحوالنا، وأخيرًا هناك نظام عسكري ديكتاتوري حاكم، مشتبك مع دوائر أوسع: عربية وغربية، تريد تأمين مصالحها الاقتصادية وزيادتها، مع الحفاظ على سقف حرية مقبول. منذ ما قبل ثورة 1919، دأبت نظم الحكم المتعاقبة على التوفيق بين هذه القوى، مرة تحت راية النضال الوطني ضد المحتل الأجنبي مع إحداث انقسامات داخلية في صفوف تلك القوى تمنعها من الاتحاد ضد النظام الحاكم، كما حدث قبل ثورة يوليو، ومرة بمحاولة صهرها ضمن مشروع قومي كما حدث في الحقبة الناصرية، وأخرى عبر قمعها وإجبارها على كبت تطلعاتها كما حدث في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، وتارة عبر اللعب على تناقضاتها لحماية النظام كما فعل السادات، وإن لم يخل المشهد من تداخلات، فالقمع سمة سادت، بتفاوت، في كل تلك العصور، وكذلك التجاذبات السياسية وإثارة الفتنة بين القوى لتفريقها.. الخ. ثورة 25 يناير واحدة من اللحظات التاريخية المهمة، والنادرة، التي توحدت خلالها تلك القوى ضد الحاكم المستبد، وكل ما يمثله من مصالح وارتباطات داخليًّا وخارجيًّا، فتوحدت الشعارات والمطالب والغايات بشكل مذهل يهدف إلى التخلص من نظام وصل إلى قمة الضعف فاستسلم بالكامل ملبيًا رغبات القوى الطامعة، الداخلية والخارجية، نظير حصوله على عمولات ضئيلة لعدد محدود من رجاله، وتمرير مشروعات سياسية أهمها مشروع التوريث. لحظة التوحد هذه وارت المشاريع والتطلعات المختلفة للقوى التي شاركت في الثورة، والتي تمثلت النموذج التونسي الذي نجح في إقصاء زين العابدين بن علي، هذا النموذج الذي أفاد الثورة المصرية حين شعر الثوار بالعار لأنهم ليسوا أقل من نظرائهم التونسيين، فدفعهم إلى الميادين دفعًا، حاملين شعارات مشابهة، رافضين الرحيل إلا بعد رحيل الطاغية. أما ضرره الأكبر فكان الانصراف من الميادين بعد تنحي مبارك، على الطريقة التونسية أيضًا، ظنًّا أن الثورة قد نجحت وأكملت مهمتها، وثقة في المؤسسة العسكرية التي ظنوا أنها لن تخذلهم إكمالاً للمشهد التونسي! ورغم أن المستبد نبهنا إلى إن مصر ليست تونس، فإننا سخرنا منه واندفعنا لنثبت العكس، وبعد أن هدأ الغبار نكتشف الآن ألا تجربة تشبه الأخرى وإن تطابقتا مؤقتًا، ففي تونس تجربة علمانية متأثرة بالتيارات الثقافية الغربية التي تصبغ كل شيء، حتى التيارات الدينية، فتجعلها أكثر انفتاحًا على الآخر، وفي مصر تجربة تنزع إلى الانغلاق والتشدد الديني تأثرًا بإسلام النفط والرجعية الوهابية، مع ما يصاحبه من رفض الآخر، ليس المختلف معها فقط، بل وبعض التيارات الإسلامية التي تختلف في التفسيرات وبالتالي بعض الأولويات! وبناء على تلك فإن الاحتفال الضخم الذي أقيم بالميدان يوم 18 فبراير، جمعة النصر، وما تم بعده من تنظيف الميدان وإخلائه كان الخطأ الأول والأكبر الذي اقترفته القوى الليبرالية، والذي تحاول لملمته الآن بدماء جديدة تغسل إسفلت الميدان! الثابت أن القوى الليبرالية هي التي أطلقت شرارة الثورة بالدعوة إلى يوم الغضب، وهي التي دفعت الضريبة الأكبر لنجاحها، حيث سقط من بينها عددًا ليس بسيطًا من الشهداء والمصابين في ميادين التحرير في عدد من المحافظات، ما دفع القوى الدينية إلى الانضمام إليها بعد أن رأت الأمور تتجه نحو الخلاص، في محاولة لقطف جزء من النتائج التي سيسفر عنها الوضع الجديد، صحيح أن شباب الإسلاميين لعبوا دورًا مهمًّا بعد ذلك في تامين الميدان، إلا أن أعمالهم تظل تالية، وتابعه. لذلك فليس مستغربًا تصدر قادة الإخوان مشهد التفاوض مع رموز السلطة المنهارة قبل رحليها، ولا مشهد التفاوض مع المجلس العسكري الآن، فقد عودتنا على تغليب مصالحها على مصلحة الوطن، ربما لأنها تتصور نفسها حامية العقيدة، التي هي- في ظنها- أعلى من الأوطان! التيارات الإسلامية تتفاوض مع المجلس العسكري، ليس باعتباره حامي الثورة كما يحلو لقادته أن يرددوا، فالثورة متراجعة في تفكير الجناحين، ولكن باعتباره القوة الجديدة التي ورثت مهمة الحفاظ على مصالح القوى الأخرى جميعًا، منها رجال المال والأعمال، وارتباطاتهم الداخلية والإقليمية والدولية عندما خرج الثوار الليبراليون إلى الميادين يوم 25 يناير وما تلاه، معبرين عن غضبهم ورفضهم لنظام حكم لا يحقق الحد الأدنى من إدارة بلد بحجم وتاريخ مصر، رفعوا مجموعة من المطالب، أهمها تكوين مجلس رئاسي مدني وحكومة إنقاذ وطني مصغرة لقيادة فترة انتقالية مدتها ستة أشهر، مهمتها تشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد معبر عن الثورة وأهدافها، تمهيدًا لإجراء انتخابات برلمانية، ورئاسية إن لزم الأمر. لكن الذي حدث أن تحالف باقي القوى المتمثلة في المجلس العسكري والجماعات الدينية ورجال المال والأعمال وامتداداتها الإقليمية والدولية، فرغت مطالب الثورة من مضمونها، وأوهمت قطاعات الشعب بأنها تحافظ على الثورة وتحقق مطالبها، فقدمت رموز النظام السابق لمحاكمات شكلية، وأودعتهم سجن طرة بعد أن حولته إلى فندق كامل التجهيز، وحلت الحزب الوطني الحاكم- وإن كانت سمحت لأعضائه بتكوين أحزاب بديلة، ولم تنقض حكم حل المحليات، ثم بدأت في إعداد المسرح لانتخابات برلمانية حرصت أن تكون نتيجتها مضمونة، عبر إصدار بيان دستوري أتبعته ببيانات مكملة، وعطلت إصدار قانون العزل السياسي، وضربت قطاعًا مهمًّا من شباب ائتلافات الثورة وقدمتهم لمحاكمات عسكرية سريعة وسجنتهم، وشغلت الساحة السياسية، عبر مستشاريها السياسيين والإعلاميين، بقضايا فرعية كثيرة، كل ذلك في سبيل إنتاج مجلسين نيابيين مهجنين من الفلول والجماعات المنتمية للتيار الإسلامي بعد دمجها في المؤسسة الحاكمة، نصفهما من العمال والفلاحين يعبرون عن عصبيات ريفية لها مصالح ضيقة تنشغل بها عن المطالب الثورية. لكل ذلك خرج الثوار إلى الميادين مرة أخرى ضد المجلس العسكري وتيارات الإسلام السياسي معًا، وما يمثلانه من مصالح وارتباطات، في محاولة أخيرة لوضع قطار الثورة المصرية في طريقه الصحيح، استهدافًا لقيام دولة مدنية ديمقراطية، لا عسكرية ولا دينية، يرفعون مطالبهم الأولى من جديد: مجلس رئاسي مدني وحكومة إنقاذ وطني من التكنوقراط، وفترة انتقالية قصيرة تمهد لانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور عصري، يضع مصر حيث مكانتها التي تستحقها بين الأمم.