مولاي التهامي بهطاط* قبل أسابيع، كنت قد حذرت في هذه الزاوية المتواضعة من مخاطر "تحول تازة إلى غزة"، لأن الأمر أخطر وأكبر من محاولة التلاعب بالألفاظ واللجوء إلى السجع المتكلف والمتصنع، لتبرير سياسات أثبت حتى الأمد القصير فشلها، بما أننا لم نصل بعد إلى مرحلة التخطيط لسياسات متوسطة أو بعيدة المدى تستشرف المستقبل، وتستبق الأسئلة بالأجوبة. أكثر من ذلك، يبدو أن هناك إصرارا فعلياً على استصغار الشرر المتطاير ليس من تازة وحدها، بل من كثير من البؤر في المغرب العميق التي تم نسيانها وتناسيها وتهميشها على مدى عقود، إلى أن بدأ الشرر ينذر بحرائق..و"معظم النار من مستصغر الشرر" كما يقول الشاعر.. لا أبالغ إذا قلت إننا كنا طيلة العقد الماضي أمام ما يشبه مباراة في كرة قدم..-والسياسة في النهاية لعبة أيضا وإن اختلفت القواعد- فكما أن الجمهور يبدأ المباراة متحمسا ويشجع فريقه المفضل في بداية اللقاء، فإن الفتور سرعان ما يتسلل إلى أوساطه، قبل أن يتحول إلى غضب أو انفجار في نهاية المباراة إذا كانت النتيجة هزيمة أو حتى أقل من المتوقع.. وهذا ما حدث في المغرب، فقد راهن الجميع على لحظة "الانتقال الديموقراطي" وما رافق تلك المرحلة من شعارات ليس أقلها "الإنصاف والمصالحة"، ورفع الفيتوهات التي كانت مشهرة في التنمية في مناطق واسعة من المغرب المنسي والمهمش، لأن علاقتها ب"الدولة" لم تكن على ما يرام، وليتضح أخيراً أن الحصيلة كانت مجرد أوهام ومسكنات وأحلاما وردية، وأنه بدل أن يستفيق المغاربة على معجزة اقتصادية، تفتح أمامهم أبواب المستقبل، اتضح لهم أن المؤشرات الوحيدة التي عرفت ارتفاعاً ملحوظا ومحسوسا هي مؤشرات الفساد والرشوة والانحلال والانفلات من العقاب، والبطالة والإدمان..، وأن اقتصاد الريع لم يعد "شبهة"، وأن "مكفولي الأمة" الحقيقيين هم الجراد البشري الذي لا يبقي ولا يذر.. وفي حالة تازة تحديداً يبدو الربط بين الكرة والسياسة أمرا لا مفر منه، ليس لأن الجماهير الغاضبة من هزائم المنتخب لجأت إلى أعمال شغب للتنفيس عن الاحتقان المتراكم منذ مدة، فتم الهجوم وتخريب ممتلكات عامة وخاصة، ومن تم اعتقال بعض "المشاغبين" ومحاكمتهم، بل لأن "مول الما والضو" انشغل بالكرة عن مهامه الأصلية والأساسية.. فمن بين أسباب إشتعال حرائق تازة، أن مكتب الكهرباء "يسرق" أموال المواطنين ب"العلالي" وفق تقنية بسيطة، فعوض استخلاص الواجبات شهرا بشهر، ما يجعل غالبية المستهلكين في حدود الشطر الأول، يتم الاستخلاص عن عدة أشهر دفعة واحدة، ما يجعل أفقر مستهلك مطالبا بتحمل تبعات شطر ثان وثالث، وهو ما يؤدي تلقائيا إلى مضاعفة قيمة الفاتورة، في مدينة تعتبر بامتياز مدينة العاطلين والمتقاعدين.. والأمر لم يقف عند هذا الحد، بل إن ساكنة دوار هرشيل مثلاً اضطرت لقطع 20 كلم مشيا على الأقدام للمطالبة بحقها في الكهربة، )وفي إعادة بناء قنطرة( علما أن كل الاعتمادات متوفرة، ولا أحد يدري ما سر تعثر هذا "الورش"، اللهم الانشغالات الكروية للسي علي الفاسي الفهري -على الأقل في الجانب المتعلق بالكهرباء-.. والعجيب أن السي علي سرعان ما فتح باب مكتبه لنواب الإقليم بالبرلمان بل ضحى بممثله بنفس الإقليم..في محاولة متأخرة للالتفاف على الغضب الشعبي.. والأعجب من ذلك، أن الحكومة فضلت الرد ببيانات التهديد والوعيد، بدل النزول إلى الميدان ومواجهة المحتجين بشكل عملي يزكي شعارات سياسة القرب والحكامة الجيدة.. وفي كل الأحوال لا أعتقد أن التهديد بمتابعة وسائل الإعلام التي صبت الزيت على النار سيكون حلا مناسبا، فالحكومة الموقرة تملك ترسانة إعلامية مؤثرة، وقد كان في الإمكان احتواء الأحداث قبل أن تتحول إلى مس بالثوابت، لو أن القنوات التلفزية العاطلة غطت الأمر بحد أدنى من الموضوعية، وقطعت الطريق على موقظي الفتنة، خاصة بعدما تحولت المدينة إلى قبلة حتى للأحزاب التي لا موقع لها على الخريطة، والتي ركبت فعلا على ما حدث لرفع أسهمها في البورصة السياسية ولو بشكل آني عابر.. فالحكومة وإعلامها غابا..والسياسة كالطبيعة لا تؤمن بالفراغ، وقد تم ملؤه بالطريقة المزعجة التي تابعناها.. لكن هل انتهى الأمر، بعد الإعلان عن تخصيص بضعة ملايين من الدراهم ل"أوراش" قد تظل حبرا على ورق؟ بكل أسف، المقاربة الحكومية أكدت أن لا شيء تغير، وأن تدبير الملفات الحساسة ما زال في نفس الأيدي ورهينة نفس الممارسات، وأن الحكومة المنتخبة ليس أمامها سوى تبرير القرارات التي يتم اتخاذها من خلف الستار، تماما كما حدث في بدايات حكومة التناوب.. فتحميل المسؤولية للمسؤولين المحليين وحدهم، ليس حلا، والبحث عن مشجب لتعليق الأزمة عليه ليس حلا، والإقرار بأن الاحتجاج مشروع وحق التظاهر مكفول، وأن "العدل والإحسان" ركبت الغضب الشعبي لتحقيق مكاسب سياسية..ليس حلا بل هو مجرد هروب إلى الأمام وسفسطة لن تجدي نفعاً.. فالمواطن اليوم لم يعد يقنع بلقاء مع مسؤول محلي أو حتى مدير مركزي، لأنه -في نظره- ليس في الدولة مسؤول محلي أو مركزي قادر على اتخاذ قرار أو الوفاء بالتزام قطعه دون الرجوع إلى من فوقه، رغم كل الحديث الدائر عن اللامركزية واللاتمركز وعن "الجهوية الموسعة".. فالمواطن تعلم بالتجربة أن القرار الفعلي في يد جهات خفية، ولهذا لم تعد توسلات رجال السلطة المحلية تجدي نفعا، لأن الكل يدرك أن الدولة لا تفهم سوى منطق "كبرها تصغار".. وأن "الشغب" هو الوسيلة الوحيدة القادرة على لفت الأنظار، وتحقيق المكاسب.. لست في حاجة إلى بسط حجم التهميش الذي عانى منه إقليمتازة على مدى عقود، وقد وصل الأمر اليوم حد اليأس الذي ينذر بالخطر، فهذه المنطقة دفعت ثمن انحدار المذبوح وآل عبابو منها، كما تحملت ساكنتها تبعات تواجد مدرسة هرممو على ترابها، وقد كان كثيرون يراهنون على عهد "الإنصاف والمصالحة" لرد الاعتبار للإقليم الذي أطلقت به آخر رصاصة في حرب مواجهة الاحتلال الفرنسي، وفي جباله أطلقت أولى رصاصات جيش التحرير، لكن مهندسي المرحلة الذين سوقوا شعار "تازة أهم من غزة"، اكتفوا بهذا "السجع" الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وعليهم اليوم أن ينزلوا إلى الشارع لمواجهة الغضبين. بل كانت آخر الهدايا ما جادت به قريحة لجنة عزيمان التي ألحقت هذا الإقليم بجهة فاسمكناس، في تكرار أسوأ لتجربة "الجهة الوسطى الشمالية"، فماذا سيتبقى لتازة وقراها ودواويرها بعد أن تقتطع كل من فاسومكناس نصيبهما من الميزانيات والاعتمادات؟ هل سيكون نصيب ساكنة هذا الإقليم مزيدا من الشعارات ومن الدعوات إلى الصبر والتحمل و"المواطنة"؟ أظن أن الأجيال الجديدة التي فتحت أعينها على الأنترنيت والفضاءات المفتوحة، لن تقنع كما قنع أجدادها بالحد الأدنى، ولن تتحلى بنكران الذات..والتضحية ليس من أجل الوطن، بل من أجل رفاهية نخبة مازالت تتعامل مع المغرب بمنطق النافع وغير النافع، الذي تحول بعد الاستقلال إلى منتفع وغير منتفع. والعتب هنا أولا على المنحدرين من الإقليم، وكثير منهم يحتلون مواقع حساسة في إدارات الدولة المدنية منها والعسكرية، تؤهلهم لخدمة مسقط رؤوسهم، لكن رأينا كيف أنه حتى الجمعية التي أسست ذات يوم تحت عناوين "تنموية" براقة، سرعان ما انفض جمعها بعد أن خابت التطلعات الانتخابية لبعض المتهافتين من أعضائها.. والعتب ثانيا على الحكومة، التي عليها أن تعيد قراءة تاريخ هذه المنطقة جيدا، وأن تحاول فهم عقلية ساكنتها، لأن الرد على المطالب الاجتماعية لا يكون بالعنف المبالغ فيه، أو بتدبيج البلاغات المثيرة للشفقة.. الناس لا يتذكرون ربما أن الاحتلال الفرنسي لم يستكمل السيطرة على إقليمتازة إلا سنة 1936، أي بعدما أن كانت مدارس ليوطي قد خرجت دفعات من "أبناء فرنسا" في الأقاليم الأخرى، ولا يتذكرون أن جيش التحرير ولد سنة 1955 في نفس الإقليم، وقد يتذكرون أحيانا أنه من هذه المدينة انطلقت المحاولة الانقلابية الأولى، وقد لا يتذكرون بالمقابل أنه في إطار ما عرف ب"مؤامرة 1963"، التي توبع فيها 120 متهما، كان نصيب المدينة 12 متهما، أي 10 في المائة من مجموع المتابعين..وهذه كلها معطيات لابد من أخذها بعين الاعتبار بدل تكرار أخطاء الماضي عبر اتهام "جماعات مارقة" بالعبث بالأمن في حي الكوشة، لتحقيق مكاسب سياسية في مكان آخر.. لقد كتبت غير ما مرة أن حزب العدالة والتنمية كان مقدرا له أن يلعب دور "العجلة الاحتياطية" في مستقبل بعيد، لكن شاءت رياح الربيع العربي أن يتم استخدامه قبل الأوان.. ولأن الطريق طويل ومحفر، فإن "السيارة المتهالكة"، لا يمكنها الوصول إلى وجهتها بسلام بعدما استعملت عجلتها الاحتياطية، وسائقوها يدركون أن هناك من يكسر القنينات الزجاجية في كل منعرج من المنعرجات.. ولهذا فالسؤال اليوم هو التالي : أيهما أهم، إنقاذ البلد من انفجار يبدو وشيكا، أم إفشال تجربة حزب العدالة والتنمية حتى لا يكون لها ما بعدها؟ بعيدا عن استباق الأمور أو محاكمة النوايا، على الجميع أن يدركوا أنهم على نفس المركب، وأنه لا مجال للحلول الترقيعية والمسكنات، فالوضع يتطلب تحركا عاجلا وفعالا، قبل أن يخرج كل شيء عن السيطرة..فامتداد لهيب الربيع العربي إلى المغرب لا يتطلب سوى شروط بسيطة أصبحت في المتناول :هدم جدار الخوف، وقليل من الصمود في الشارع.. وإن في التاريخ الذي يكتب اليوم في أكثر من دولة شقيقة ..لعبرة لمن أراد أن يذكر...