الجو ممطر ، فصل شتائي بامتياز ، الوجوه تكسوها مسحة الأمل والبريق من آثار تساقط أمطار الخير والبركة ، الفلاحون يتنبئون بموسم فلاحي جيد ، الأرض ارتوت ، وارتوت معها القلوب وغسلت من آثار الأحقاد على سنوات القحط المتتالية " صابر " فلاح أبا عن جد ، مولع بحب الفلاحة والأرض حتى النخاع ، بينه وبين الأرض قصة عشق وهيام كبيرين ، عشق تلمسه في كل سكناته وحركاته ، هو ابن الأرض والزرع ، هو ابن الماء والتربة... " صابر " رمز من رموز فلاحي القرية في منطقة فلاحية ، هضبية . كعادته يستيقظ باكرا يتناول فطوره بسرعة ، ثم يسرع إلى الغرفة التي تتواجد بها معدات الفلاحة ، يحمل الفأس والمعول والمحراث ، ثم يتجه صوب الإسطبل ويفك رباط الدواب .. وهو بين الغرفة والإسطبل يرتشف فنجان الشاي المنغم برائحة الأعشاب الجبلية " الزعتر والنعناع الأخضر اليابس " الذي تفوح منه عبق رائحة زكية ، ومع الانتهاء من عملية تجميع المعدات الفلاحية ..يمتطي دابته ويتجه نحو أرضه في الهضاب الشاسعة الممتدة امتداد الوادي حيث المياه ، والتربة وعبق الأعشاب البرية ، ونسيم الهواء الجبلي المنعش الذي يعيد للنفس حيويتها وانتعاشها اليومي .. وعند وصوله إلى المكان المعهود ينزل المعدات من أعلى ظهر الدابة ويشرع في تقليب الأرض بالمحراث والمعول .. فتفوح رائحة التربة ويجذبك منظر الأرض التي أصبحت كلوحة فنية متشابكة الخطوط ، وقد اكتست رونقا جميلا بفضل اختلاط لون التربة بلون طيور اللقالق البيض اللاتي تحط عليها بكل غطرسة كأنها متربعة على عرش مملكتها ، تتم عملية تقليب الأرض بين جر ومد حتى يتصبب جبين " صابر " عرقا . يستريح قليلا وقت الظهيرة ، لتناول وجبته الغذائية المتكونة من الجبن والسمن البلدي ، وبعض البصل الأخضر الذي يعمل على ضغطه بيده ، وهو يستمع إلى خرير مياه الوادي منشدا أهازيج شعبية من تراث المنطقة الجبلية الغنية بفنون شتى تنبئ عن النفوس الطيبة ، القنوعة ، المؤمنة ، نفوس حبلى بالجود والكرم حتى في السنوات العجاف ، وبعد هذه الاستراحة يعود ليواصل عمله بحيوية كبيرة تحفزه أمطار الخير التي هطلت على المنطقة وأعادت إليها الحياة بعد تعاقب سنوات الجفاف المميتة واليابسة ، هكذا يقضي يومه وهو منغرسا ومنهمكا في خدمة أرضه بكل جد ونشاط .. يعود " صابر " إلى بيته ، يحط رحاله بعدما قضى يوما ولا أروع بين أحضان الأرض ورائحة التربة ، وخرير المياه ... متناسيا كل الكلل ، والتعب المضني الذي بدله في تقليب الأرض ، وبنفس راضية ، قنوعة ومؤمنة. هو " صابر " الإنسان البدوي بامتياز ، إنسان وهب نفسه لتنمية ألأرض ، وللغرس والفلاحة ..نفسه تأبى الخنوع والاستسلام للكسل والتقاعس،،، هو " ابن الأرض ،ابن الطبيعة ،، ابن الجبل.