على بعد خطوات من البحر، وفي واجهةٍ حضريةٍ راهن عليها الجميع لتكون عصبا نابضا ل"طنجة الكبرى"، تنتصب ثلاث قنينات بلاستيكية على الأرض، بينما يتأهب طفل بالكاد تجاوز العاشرة لرمي كرة صفراء باهتة. متفرجون يصفقون، والعملة المعدنية تتطاير في الهواء، وسط صخب لا يُميّز بين الضحك والحاجة. المشهد يبدو من الوهلة الأولى عفويا، بل ومُسلّيا، لولا أنه يحدث فوق إسفلت كلّف الدولة أكثر من 700 مليون درهم. بهذه الميزانية الضخمة، شُيّد كورنيش طنجة الحديث على مراحل، وامتد ليشمل بنيات تحتية، ممرات للراجلين، فضاءات خضراء، مناطق لعب، مدرجات حجرية، تجهيزات للإنارة، وحدات أمنية، وعناصر جمالية تُبرز الواجهة البحرية. ومع اقتراب الموسم السياحي، يُكشِّر الواقع في هذا الفضاء عن مفارقة جارحة. فبينما تصطف فنادق مصنّفة ومقاهٍ عصرية فاخرة على امتداد الواجهة، وتطل شرفاتُها الزجاجية على الممرات البحرية، يكتفي الكورنيش نفسه باستضافة مظاهر عشوائية، تُفقده بريقه، وتُحوّله ليلاً إلى مساحة مفتوحة لألعاب قمار بدائية تستهدف الأطفال والمراهقين. "لعب بدرهم واربح خمسة!"، صيحة يتكرر صداها في المساء، بلا حرج، بلا ترخيص، بلا رقيب. ألعاب تعتمد على قنينات الماء، كرات قديمة، حبال مشدودة، بنادق بلاستيكية، وأهداف ورقية، لكنها كلها تشترك في شيء واحد: المال. لا جوائز رمزية، لا محاكاة بريئة للعب… فقط مقامرة صريحة، تجري في الهواء الطلق، وتُمارَس أمام أعين الجميع. لا يحتاج الزائر للكورنيش إلى كثير من التمحيص لاكتشاف علامات التراجع. الإنارة باهتة، تضيء أكثر ما تفضح، وتُظهر الأرضية التي غطاها الغبار، وتلك الروائح الكريهة التي تنبعث من زوايا مهملة، وتُفسد نزهات العائلات. لا عمال نظافة في الأفق، لا صيانة منتظمة، لا إحساس بأن الفضاء مراقَب أو محميّ. مياه الأمطار الأخيرة هي التي قامت بغسل الإسفلت، في غياب واضح لأي تدخل بشري. وفي قلب هذه الفوضى، تستمر الحياة الليلية، ويتقاطر الناس. مئات العائلات الطنجاوية، زوّار من مدن قريبة، وحتى سائحون أجانب يمرّون عبر الكورنيش بحثا عن تجربة متوسطية، ليصطدموا بمشهد يوحي بأن المشروع تخلّت عنه الجهات التي أنجبته. السلطات المحلية، من جهتها، تُسجَّل لها تدخلات متفرقة: حملات لتحرير الملك العمومي، ضبط ممارسات عشوائية، تنبيهات للباعة غير المرخصين. لكنها، بطبيعتها، محدودة الأثر، مؤقتة المفعول. ما تفتحه السلطة بالحزم، يُعيد المنتخبون غلقه بالإهمال. فجماعة طنجة، ومعها مقاطعة المدينة، يغيبان عن المشهد. لا صيانة، لا تنشيط، لا رؤية. الكورنيش لا يعيش، بل يُستهلك. لا فكرة واضحة لتدبير المرفق، لا برمجة صيفية، لا دعم للمبادرات الثقافية، لا تتبع لممارسات مشبوهة، ولا حتى تواصل مع الساكنة. واجهة بحرية كلّفت الملايين، تُركت فارغة من أي مضمون حضري حقيقي، وتحوّلت إلى ما يشبه لوحة مكسوّة بالضجيج والركود. وبين الفنادق الفاخرة و"بولينغ القراعي"، بين واجهات الزجاج والمقامرات العشوائية، يتشكّل واقع متناقض يُفسد المشروع من الداخل. طنجة لا تحتاج إلى رخام أكثر، بل إلى مسؤولية. الكورنيش لا يحتاج إلى تبليط إضافي، بل إلى من يُخرجه من هذا التسيّب المتزايد. السائح لا يُخدع بسهولة، والعائلات الطنجاوية تعرف جيداً أن هذا الفضاء، رغم تكلفته، فقد معناه. .. الصور على إنستغرام قد تبدو جميلة من بعيد… لكن من يقترب، يشمّ الحقيقة.