كمْ كان يغمرني الفرح وأنا أرمقك وأنت على منصة الخطابة السياسية، تجوس بنظرك في ديواني: “القلب حُرا”، أول أمس، بطنجة، بعد أن أهديتك إياه، معتقدة بأنك قد تحتاج تلك القصائد كقرص مهدئ من رطانة الخطاب السياسي ومزالقه وفخاخه، أنت الدكتور العارف بخبايا النفس والترويح عنها بالمجازات والاستعارات.
رئيس حكومة يقرأ الشعر: هل تحقَّقَت الدهشة؟
لست أدري لماذا في هذه الكتابة إليك، استحضرت روح الشحرور الأبيض محمد شكري، وكأني به يهمس في أذني:
“قلْ كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتما طريقها”
هذه كلمتي إليك، إذن، وليكن بيننا في البدء تعاهد مُعلن على أن أنتصر وإياك للصدق والوضوح والجهر بكوامن العِلل، عساك تستجيب إلى صراخ الشاعرة.
فهل تستوعب بأن الميزانية المخصصة لوزارة الثقافة هي أدنى وأبخس ميزانية، في دولة تعتز بشخصيتها الوطنية، وتسعى جاهدة إلى تكريس قيم الجمال والانفتاح على خصوصيات وثروات تاريخية وجغرافية وتراثية تُعتبر ثراء وغنى قَلَّ نظيره في هذا العالم، ميزانية هزيلة جعلت كل العاملين والمهتمين والمنشغلين بالشأن الثقافي مكبلي الأيدي، محدودي الآفاق وضيقي السعة…
ميزانية لا تحضن أفكار وخيالات المبدعين والفنانين لصناعة الجمال ضدا على القبح الذي يلطخ وجه العالم…
ميزانية لا تشجع على الإنتاج الثقافي، ولا على رسم استراتيجية ثقافية هادفة، وازنة، رزينة هدفها الأساس التوعية والتنوير والتربية على الذوق والفن وتلمس نقط الضوء في داخل كل منا.
فكيف نعثر على الضوء والمصباحُ نوره شحيح وزيته يكاد لا يضيء؟
وفِي هذا الإطار، هل تعلم بأن أكبر مؤسسة ثقافية، التي هي اتحاد كتاب المغرب، ذات الشرعية التاريخية، إذ فاق عمرها ستين سنة، عاجزة اليوم عن تنظيم مؤتمرها منذ أزيد من سنة مضت، فقط لأن رصيدها المادي سلسلة أصفار، والأرقام على ذمتي ومسؤوليتي لأني أنا أمينة مال هذه المنظمة، التي بوسعكم ان تطلعوا على تاريخها وإنجازاتها وكذا القامات الفكرية والأدبية التي رسمت ملامحها وخارطة طريقها، كتاب المغرب أعضاء الاتحاد يُعوزهم ثمن إيواء ليلتين لأجل عقد مؤتمرهم.
هل تعلم بأن المثقف لا يكاد يسمع له صوت، من فرط تغييبه وتهميش آرائه عن القضايا الوطنية، ودوره الاجتماعي الكبير لتنشئة الأجيال وطرح الأفكار، وصياغة الحلول وقت الأزمات، ومناقشة ما استعصى منها على السياسي، في أوقات تتطلب إعمال العقل واستحضار العِبر من خلال التجارب الإنسانية الكبرى…فأين الوضعية الاعتبارية لصُناع الأفكار ومبدعي العالم الأفضل، وفناني الحياة؟
هل تعلم بأن المشاريع الثقافية الكبرى تُعدم وتُجهَضُ في مهدها لأنها أصبحت عنوانا للاستجداء والتسول وحتى التوسل لرؤوس الأموال والقِطاع الخاص، الذي لا تعنيه ثقافة ولا فن بقدر ما تعنيه الأرقام والأرباح..
هل تعلم – ويعلم أهل الاقتصاد والمال والأعمال- بأن الرهان على تنمية الإنسان أكثر بكثير من خيار العمران، وهو القاعدة التي آمنت بها أعرق الحضارات الإنسانية التي تفوتنا بسنوات ضوئية، فقط لأنها تمثلت جيدا النظرية الخلدونية، ابن خلدون الذي خرج ذات صباح من أزقة فاس ليجوب ربوع المعمور..
هل تعلم بأن التلفزيون العمومي المغربي، بقنواته الثلاث، ليس في جعبته إلا برامج ثقافية يتيمة تبث بعد منتصف الليل، بينما تبث برامج التفاهة والعبث والسخافة في ساعات ذروة المشاهدة، كأننا نراهن عنوة على جيل قادم همه الوحيد هو التسلية الرديئة والأفكار الهدامة لقيمه وقيم وطنه الكبرى…
هل تعلم بأن المفكر والمبدع والمثقف المغربي يعتلي منصات التتويج والفوز بجوائز عربية ودولية كبرى تشرّف وطنه، في جميع أجناس الأدب والفكر والثقافة، دون أن يتلقى حتى بطاقات التهنئة، وبالأحرى أوسمة..
هل تعلم بأن المثقف والفنان المغربي ينتهي إلى فقر مستشفياتنا، في خريف عمره، يئن من وجع الوقت والمرض والحاجة والعوز، ولا تسعفه إلا رحمة من رب العالمين، ويد حنون، يدُ ملك البلاد، يدٌ اعتادت أن تنثر سخاءها وكرمها على هذه الفئة من “مناضلي الثقافة” وقت كل داء وسقم وألم…
هل تعلم بأن عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، طه عبد الرحمن، محمد كسوس، عبد الله كنون، المهدي المنجرة، عبد الفتاح كيليطو، خناتة بنونة، عبد الرحمن طنكول، محمد سبيلا، عبد الكريم غلاب، محمد برادة، مليكة العاصمي، عبد الكبير الخطيبي، محمد عزيز الحبابي، محمد العمري، سعيد بنسعيد العلوي، عبد السلام بنعبد العالي، كمال عبد اللطيف، عبد الإله بلقزيز… واللائحة تطول.. أسماء سامقة أعطت الكثير للمغرب، لكنها لا تَعني شيئا ولا تعكس علاقة تكامل وتضافر جهود، في مُفكرة السياسي ولا في برنامجه ولا في صياغة أفكاره، في حين هم وحدهم بفكرهم، وبرؤاهم ورهاناتهم من يستطيعون أن ينيروا الطريق باستشرافاتهم المضيئة سيدي الأمين العام لحزب المصباح…
ديواني سيدي رئيس الحكومة الذي تحمله بين يديك، اخترت له عنوان: “القلبُ حرّا”، (الذي بالمناسبة حاز جائزة ألمانية أعتز بها هي جائزة “كوتونبرغ”). وقد أردتُ للقلب أن يتحرر من الحقد والحسد والضغينة والأوهام، لأجل ذلك أحلم وأتمنى وأسهم بما استطعتُ من مكاني وزماني بأن أنادي لهذا التحرر الحق.. التحرر الذي يُترجمُ ما يجب أن يكون عليه الإنسان..
نريد إذن قلبا حرا من كل إقصاء، وضغينة، وسوء فهم، ومحاولات تقتيل لكل النوايا الطيبة..
قلبا حرا من كل قيد سياسي أو إديولوجي، مخلصا لمبدإ الانتصار لمشروع مجتمعي، قوامه الحرية في القول والتعبير، والديموقراطية في التسيير والتدبير، والعدالة بين الأفراد والكرامة لكل من تشرّب أو تنسَّم عبق هذه الجغرافية المحروسة برعاية ولطف الله..
التاريخ، سيدي، سيكتبه الأبطال والشجعان، الحاملون لفكر التحديث والتنوير، والسائرون على محجة حب هذه البلاد، حب لا تشوبه شائبة ولا ينقصه إخلاص.