مساء عطر وندي بدأ يدثر مدينة طنجة بعد يوم رمضاني قائظ ... وشمس الأصيل كما دأبها قد شرعت في الجنوح تدريجيا نحو مغيبها ... بعض شوارع المدينة قد تحولت إلى ما يشبه حلبة سباق بين السيارات بينما استحالت شوارع أخرى إلى ما يشبه مسالك لمواكب أعراس بفعل عويل منبهات السيارات المتواصل والمثير لحنق الناس ولأعصابهم ... أهل المدينة وأبناؤها يحثون الخطى إلى بيوتهم تلبية لموعد مضروب مع موائدهم التي تزدان في شهر الخير والبركة بما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين . يتصرم الوقت رويدا رويدا إلى أن يزف موعد الإفطار ... يسمع بعد ذلك دوي المدفع مجلجلا في كل الآفاق ، فتنطلق أصوات آذان المغرب من المساجد منسابة ليتردد صداها العبق في كل منعطف وزاوية بل وفي كل مكان . ولوهلة ترتدي مدينة طنجة رداء الصمت بعد أن تخلع عنها جبة صخبها المعهود ... فلا أصوات بعد ذلك تقتحم سكونها ولا حركة تنغص عليها هدأتها ... الشوارع والأرصفة خالية مقفرة إلا من بعض الشباب الذين يستغلون مناسبة الشهر المبارك لبيع عصير البرتقال وقنينات العصائر الأخرى المحلية الصنع أو المهربة حيث يضعون معروضاتهم التي قلما يعبأ بها العابرون فوق طاولة من خشب ويجلسون على مقربة منها يتبادلون أطراف الحديث نهارا ويتسامرون ليلا . ويلف الصمت أرجاء المدينة عقب انتهاء آذان المغرب حتى لتبدو كما لو كانت غارقة في لجة الكرى ... وقتئذ تبدأ حكاية جود أهلها الذي ليست له ضفاف ولا شطآن في شهر الرحمة والغفران . فبيوت أهل طنجة التي من طبعها أن يفوح من نوافذها وفرجاتها عبير الأكلات التراثية الشهية خلال الشهر الفضيل تشرع في الاحتفاء بذويها وبضيوفهم الصائمين وتلفهم بعباءة أنسها وحلاوتها ...يتحلق الصائمون داخلها عند آذان المغرب حول موائد الإفطار ويلتئمون في أجواء حميمية دافئة وقد ارتسمت البسمة على شفاههم والتمع في عيونهم وميض الرضا والحبور بعد أن امتثلوا لأمر ربهم و ذهب ظمأهم وابتلت عروقهم . وحالما يفرغ الصائمون في طنجة خلال رمضان من تناول الإفطار وأداء صلاة المغرب يستلقي البعض منهم في كسل وارتخاء قبالة جهاز التلفاز الذي يجود خلال الأيام المباركة بباقة من البرامج والمسلسلات التي يقال عنها أنها سخيفة ومبتذلة ... البعض الآخر يغشاه الخمول من فرط ما التهم من طعام حتى تراه وقد أرخى جفنيه وأخذته سنة من النوم ... الليل يواصل في تلك الأثناء بسط جناحيه على المدينة الغافية ... و تنقضي ساعة ويزيد ثم تنطلق المدينة من عقال هدوئها من جديد فتستأنف الحركة الدائبة نشاطها تدريجيا في كل جنبات المدينة و أطرافها ... الشوارع والأرصفة تشرع في نسج فيضها بعدما تخلصت من شبح غيضها ، فتبدو بعد ذلك السيارات متدفقة من كل صوب وحدب في اتجاه بيوت الله ...وكذلك الحال بالنسبة للمشاة الذين تراهم بمختلف فئاتهم العمرية يشقون طريقهم إلى المساجد وهم متلفعون بجلابيبهم يحملون السجاجيد في أيديهم أو يتأبطونها في غبطة وانشراح . الصغار بدورهم لا يفوتون هذه الفرصة ، إذ تراهم يرافقون أهليهم وذويهم إلى المساجد لأداء صلاتي العشاء والتراويح وهم مزهوون بجلابيبهم الجديدة أو القديمة ،يتصايحون و يتقافزون نشاطا وحيوية . وليس يعني هذا أن المدينة تخرج عن بكرة أبيها إلى المساجد لأداء تلك الشعيرة ، بل هناك من أهلها من يعفون أنفسهم في تلك الأثناء من التوجه إلى بيوت الرحمان لعلة ما فيمكثون في بيوتهم ، ومنهم من يقصدون المقاهي لمجالسة الأصدقاء فيتحدثون ويتسامرون ويلعبون لعبة الورق وغيرها ويدخنون السجائر وأشياء أخرى إلى أن يصلوا الليل بوقت السحور ... وقبيل آذان العشاء تصبح كل الطرق مؤدية إلى المساجد التي تتزين بمناسبة شهر رمضان بالمصابيح المضيئة والأنوار المتلألئة التي تشيع البهجة في القلوب .... يحين بعد ذلك موعد آذان العشاء ، فيشرع مزيج من أصوات المؤذنين في الانتشار والتجاوب في أجواء طنجة في وقت تواصل فيه بيوت الرحمان استقبال ضيوفها حتى تضيق رقعتها بهم فتغلق بعد ذلك الطرق و الباحات المحيطة بها لتمتد إليها صفوف المصلين . وفي تلاحم وانصهار تؤدي حشود المصلين صلاتي العشاء والتراويح . وفي تلك الأثناء تحلق أصوات القراء في سماء المدينة فيخترق صداها سكون الليل ، ليحملها الهواء إلى الذين أقعدتهم ظروفهم الصحية عن الانضمام إلى المساجد ، فلا يملك هؤلاء إلا أن يصيخوا السمع حتى لتكاد تجري دموعهم بعد أن تملك أصوات القراء إحساسهم فيعبون من الهواء الذي يحملها ما يشيع السكينة في نفوسهم لكن من غير أن يرتووا .... وحين ينتهي المصلون من صلاة التراويح وينتشرون في الأرض تعود الحركة لتدب في مختلف أرجاء المدينة و لتستمر حتى وقت متأخر من الليل ثم يخفت بعد ذلك إيقاع الحركة رويدا رويدا وتتخفف الأرصفة من أقدام المشاة والشوارع من وقع السيارات والدراجات بعد أن يكون أغلب أهل المدينة قد آووا إلى مضاجعهم . وقبل آذان الفجر ، تشق قرعات الطبول هدوء المدينة فيستيقظ النائمون لتناول وجبة السحور ، ثم تهب على المدينة نسائم إيمانية وروحانية عبقة بعد أن يحمل هواؤها خليطا من أصوات المؤذنين التي تتها دى في عذوبة إلى أسماع النائمين منادية " حي على الصلاة .... حي على الفلاح .... الصلاة خير من النوم " فيلامس ذلك النداء العطر الناعم أوتار قلوبهم ويهز أقطار نفوسهم ، فلا يملكون بعد ذلك إلا أن يهبوا من مضاجعهم و ينفضوا عجاج الخمول والتثاؤب عنهم ليتقاطروا بعد ذلك في غبش الفجر إلى المساجد بقلوب متوهجة ونفوس راضية في مشهد يفيض دفئا ونورا. وحينما ينفض المصلون بعد أداء صلاة الفجر إلى بيوتهم ، تغفو المدينة من جديد وتلوذ بحصن السكون بعد أن تصبح خاوية على عروشها متشحة بصمت لا يقطعه إلا هدير سيارات نقل العمال التي يسابق سائقوها الزمن بلا حذر ولا وجل . وبعد أن يسفر الصباح و تبسط الشمس رداء ضيائها ، تكون المدينة ما تزال تغط في سباتها العميق الذي يمتد زمنه عند الكثير من أهلها حتى الضحى وإن كان البعض منهم يحلو له أن يمدده حتى وقت متأخر من نهار رمضان . وعقب صلاة العصر تنشط في المدينة حركة دؤوبة خصوصا في الأسواق التي يتقاطر الناس عليها لشراء الحاجيات واللوازم . الأسواق في تلك الفترة تصبح غاصة بالمتسوقين وبغيرهم ، يحتويها اللغط والجلبة والتدافع ....الباعة المتجولون في رحابها يطلقون العنان لأصواتهم فيرغون ويزبدون من غير أن تكل حناجرهم ... المتسولون المتناسلون ينتشرون في كل مكان ، يبسطون أكفهم ويطرقون بأدعيتهم ومسكنتهم أبواب قلوب أولي الرحمة والإحسان استدرارا للصدقات ... بعض النشالين لا يراعون حرمة شهر التقوى إذ يجدون ضالتهم في الأسواق المزدحمة وكأن شياطينهم غير مصفدة ، فتراهم يندسون وسط الزحام وهم يمسحون بأبصارهم الزائغة كل صغيرة وكبيرة طمعا في الحصول على صيد ثمين يقتنصونه ... وفي تلك الأسواق المزدحمة يطيب لبعض الناس التجول ، فتراهم يسيرون على غير هدى ومن غير أن تكل أرجلهم من السعي ، يهيمون ولا يبالون إلى أي وجهة هم مسوقون ... يزاحمون الناس ويلتمسون في تجوالهم التسرية و تزجية الوقت والتلهي بالنظر في البضائع المعروضة و بمشاهدة معارك الشجار والملاسنات التي يحتد أوارها بين الناس خلال شهر المحبة و التسامح و الصبر . ورويدا رويدا تتخفف أسواق المدينة من روادها لتعود الحركة الدائبة إلى الشوارع والأرصفة والحواري والأزقة ، فترى الكل يشق طريقه نحو بيته عند الأصيل حتى إذا خفت إيقاع الحركة وخمدت جذوته بحلول موعد آذان المغرب يكون الكل قد ابتلعه بيته. هكذا تدور الأيام و وتتعاقب الليالي في مدينة طنجة خلال شهر الرحمة والمغفرة ، تدور لتشكل بألوانها الروحانية وبطقوسها الزاهية لوحة بهية الملمح تختزل معالم الحياة اليومية لدى أهل طنجة وتختصر أجواء الزمن الرمضاني الذي يحلو ويصفو بسحر إيقاعه الذي يملأ النفس جمالا وجلالا .