ينفي راجي أنه أكل لوح الشوكولاتة رغم أن والدته قد رأته. فيما يسأل هاني بصوت مرتفع: «ماما لماذا هذه السيدة تسير على عصا!»، موقفان غالبًا ما تواجههما الأمّهات، ويشعرن بالحرج إذا ما حصلا في مكان عام. فلماذا ينفي راجي؟ وهل هذا وجه آخر للكذب؟ ولماذا يسأل هاني ويُحرج والدته؟ وكيف يمكن الأم تعليم طفلها ألا يقول ما يفكر فيه بصوت عال. يرى اختصاصيو علم النفس أن الطفل يبدأ الكذب منذ سن الثالثة، ففي إمكانه رواية قصة غير صحيحة ليتجنب العقاب، أو ليحصل على شيء يرغب فيه، وتجميل تصرّفه. في المقابل، عندما يبدأ الطفل الكلام، يقول بصوت مرتفع ما يفكر فيه من دون أن يأخذ في الاعتبار أن صراحته هذه قد تسبب ألمًا للآخرين، وإحراجًا للأهل، الذين يدركون تمامًا أن ما يقوله ابنهم حقيقي، مثلاً عندما يسأل أحدهم الطفل: هل تحبني، فيجيب بعفوية: لا. ورغم أن الصراحة والكذب نقيضان، فإن هذين السلوكين، لا يدرك الطفل عواقبهما، فهو يكذب للدفاع عن نفسه وليس لأنه كاذب، وهو صريح لأنه لم يتعلّم بعد اللباقة في الحديث، وأن ليس كل ما نفكر فيه نتفوه به على الملأ. في حالة الكذب يرى الاختصاصيون أن من المهم التمييز بين الكذب المتعمد والكذب الخيالي، ذلك أن الطفل في هذه السن يصعب عليه التمييز بين الخيال والواقع، فهو يروي بصدق حقيقي قصة من نسج خياله "إنها أميرة، إنه البطل الذي يحرّر هذا الكوكب، ألعابي تتحدث إلي في الليل.." وهذه الروايات المختلقة تعرف ب «التفكير السحري» الذي يضفي عليه الطفل قوّة مطلقة. من الضروري تعليم الطفل نفسه على وضع حد بين الحقيقة والخيال، ويفترض بالوالدين أن يشرحا للطفل لماذا يعتبر الكذب شيئًا سيئًا، وكيف أنهما إذا لم يميّزا بين ما هو جاد في كلامه وما هو مختلق، فلن يتمكنا من مساعدته إذا حدث له أمر خطير. وفي إمكان الأم أن تحكي له مثلاً قصة الولد الذي كان يصيح دومًا «ذئب» فيركض أهل القرية لإنقاذه، لكنهم في كل مرة كانوا يكتشفون كذبه، إلى أن أتت اللحظة التي هجم فيها الذئب فعلاً على الولد، لكن لم يأتِ أحد لإنقاذه، ويجدر ألا يتهموه بالكذب، لأنه في هذه السن لا يكون لديه مفهوم واضح عن الكذب، لأنه يحاول لفت الأنظار إليه، ويمكن أن يكون الأمر إشارة إلى أنه يشعر بالتعاسة، وربما كانت لديه مشكلة في تكوين علاقات مع أترابه. ولتلافي هذه الأمور، يتوجب على الأهل مواصلة الحوار مع الطفل. كلما كان ينمو، يدرك الطفل أن قصصه لا تصدّق، لذا ليس من المفيد أن تكرّر والدته أنه يروي خرافة، فهو في ابتكاره القصص يشعر بوجوده، لأنه يكتشف اللغة، وسوف يفهم تدريجيا أن الكلمة يمكن أن تكون مضللة. أما الكذب الحقيقي فأسبابه كثيرة، فهو يكذب لأنه يريد إقناع الآخرين: أخبر أقرانه أن منزله هو سفينة نوح؟ غالباً ما يكذب الأطفال ليمنحوا وجودهم قيمة معنوية تجذب أترابهم، لإصلاح موقف ما، لتجميل حياتهم، ليشبهوا أصدقاءهم، أو ليكونوا أشخاصًا مهمين. في هذه الحالة ماذا على الأم القيام به؟ منحه الثقة بنفسه بمساعدته على إدراك أنه شخص مهم كما هو، وعلى ما هو عليه، ولما يقوم به، إذ ليس الادعاء بأن لديه الكثير من الألعاب سيجعل أصدقاءه يحبونه أكثر، أي على الأم أن تشرح له أن عنده الكثير من المميزات الجميلة التي تجعل الآخرين يحبونه، وهذه ستكون فرصة للبرهنة له أن كذبه سوف يُكشف، وبالتالي سوف يشعر بالحرج الكبير. يكذب ليتجنّب العقاب: يعرف تمامًا أنه كسر الزهرية، ولكنه يخاف الاعتراف، ومن خلال عدم اعترافه بما ارتكبه سوف يتجنب العقاب، لذا يحتمي بالكذب رغم إدراكه أنه خطأ. في هذه الحالة كيف يجدر أن يكون رد فعل الأم؟ أن تتمالك نفسها، وتبقى هادئة كي لا تدفعه إلى الكذب، وعليها أن تقدّر قيمة اعترافه العفوي، عندما يقرّ بأنه ارتكب حماقة، ويمكنها أيضًا أن تشكره، لمساعدته دائمًا على قول الحقيقة. يكذب ليحصل على شيء يحبه: وهذا ما يفعله الأطفال الذين يختبرون تجربة طلاق الوالدين، أو أولئك الذين يريدون استغلال عاطفة أهلهم، مثلاً يقول إن والده سمح له مثلاً بأن يسهر أو يستعمل هاتفه الخلوي، في حين تدرك الأم أنه لا يقول الحقيقة. ماذا يمكن للأم أو الأب أن يفعلا؟ التأكيد للطفل أنه ليس أحمقا، وأن هذا النوع من الأكاذيب قد يمر أحيانًا، ولكن لفترة قصيرة جدًا، فالكذب يؤدي إلى عدم الثقة، كيف يمكن بعد ذلك الوثوق بكلامه أو تصديقه في حال حدث الأمر بالفعل، وأخيرًا على الأم أن تشرح له أن الحقيقة تظهر دائمًا مهما حاول إخفاءها. يكذب كي لا يسبب ألمًا لأحدهم: وهذا النوع من الكذب غالبًا ما يشجع الأهل طفلهم عليه، مثلاً أهداه خاله كتابًا في عيده، فيما هو كان يتوقّع أو يرغب في شيء آخر، وفي المقابل يصر الأهل ليس فقط على ضرورة أن يشكر الطفل خاله، بل الادعاء أنها هدية جميلة، بلباقة واحترام. ماذا على الأهل القيام به بدل ذلك؟ إنها مفارقة غريبة فعلاً، فالأهل يغضبهم كذب ابنهم، وفي الوقت نفسه وفي بعض الحالات يشجعونه على عدم قول الحقيقة، وهذا يجعل الطفل مشوش التفكير، لماذا يريدونني أن أكذب في حين يقولون إن الكذب سلوك سيء. الطفل لا يعرف الفارق بين الكذب الأبيض «اللباقة»، والكذب الأسود، لذا على الأهل في هذه الحالة أن يعلّموا طفلهم أن في إمكانه شكر الشخص فقط لأنه فكر فيه، وعدم تشجيعه على الكذب والادعاء أنها تعجبه كثيرًا، بل كلمة شكرًا تكفي، وعلى الأهل أن ينتظروا حتى السابعة أو الثامنة كي يدرك الطفل معنى المجاملة. متى يجدر بالأهل القلق من كذب طفلهم؟ الأكاذيب الصغيرة ليست خطرة، وعلى الأهل أن ينتظروا بلوغ الطفل السابعة أو الثامنة، أي السن التي يتعلم خلالها الطفل معنى الفرق بين الخير والشر، فالطفل الذي يختلق القصص في الخامسة من عمره ليس كاذبًا، ولكن يمكن الأهل مساعدته في استعادة الواقع بسلاسة. مثلاً يدعي أنه قام برحلة حول العالم، يمكن الأم تصحيح ادعائه بالقول مثلاً: «صحيح أنك تحب أن نمضي العطلة خارح البلاد، وأنك سافرت معنا إلى باريس، ربما حين تكبر سوف تكون من هواة السفر وتقوم بجولة حول العالم»، أما إذا كان الطفل يصر وبشكل دائم على اختلاق القصص ويبدو أنه لا يتواصل مع الواقع، عندها عليهم استشارة اختصاصي، لمعرفة ماذا يحدث معه. في حال قوله ما يفكّر فيه بصوت عالٍ غالبًا ما يكون رد فعل الطفل محرجًا للأم عندما لا تجيبه عن سؤاله العفوي الذي تفوّه به علنًا. فهو يسألها لماذا لا تجيبين، يجد نفسه في موقف مبهم. وفي المقابل، لا تعرف الأم ماذا عليها أن تفعل. وهذا غالبًا يحدث مع كثير من الأطفال. ففي سن الرابعة يدرك الطفل الاختلافات ويعبّر عن ذلك ببساطة. فقبل هذه السن لا يهتم بما إذا كان هذا الشخص سمينًا أو قصيرًا أو معوقًا، فالمهم بالنسبة إليه العلاقة التي يبنيها مع الآخرين. ماذا يجدر بالأم القيام به في هذه الحالة؟ أن تحاول عدم المبالغة في رد فعلها، بل تجري مع طفلها حوارًا وتستفيض في الموضوع، مثلاً تقول له بالفعل الناس ليسوا متشابهين، فهناك الطويل والقصير، النحيل والبدين، الطفل والشاب والعجوز... ولا مانع في أن تجعل الشخص الذي علّق على مظهره يشارك في الحديث، ويفسّر للطفل الاختلاف. مثلاً إذا قال الطفل أمام والدته إن جدته عجوز وسوف تموت، بدل نهره والقول عيب، كيف تقول هذا، سوف تحزن جدتك... عليها أن تشرح له الفارق في السن، ومعنى الموت، وتسمح للجدة بالمشاركة في الحوار وتشرح له الفارق بين الطفل والشاب والعجوز. وفي المقابل، إذا كان تعليق الطفل في مكان عام، يمكن الأم أن تقول له: «يمكن أن نتحدث في الأمر لاحقًا. ذكّرني، أرأيت ليس جميع الناس متشابهين». ولكن يحدث أحيانًا أن يعلّق الطفل بعفوية على مجاملة تقولها والدته فيحرجها. ما الذي يجدر بالأم أن تفعله؟ الطفل بين الرابعة والسابعة لا يفهم المجاملات الاجتماعية، وهو بالتالي يعبّر عما يشعر به بصراحة وعفوية تامة. فهو إذا لم يكن يحب شخصًا ما، يقول له بصراحة «أنا أكرهك»، وبالتالي يفترض أن على الراشدين من حوله، خصوصًا والديه، قول الحقيقة كما هي. لذا وبطريقة عفوية يحرج والدته عندما يسمعها تقول عبارة مجاملة لإحداهن، فيقاطعها بالقول: «ولكن هذا ليس صحيحًا، أنت قلت عكس ذلك». لذا من الأفضل للأم الابتعاد عن عبارات المجاملة في حضور الطفل، إذ عليها منذ البداية ألا تعوّد طفلها على مفهوم الكذب الأبيض. ماذا على الأم أن تفعل إن أحرجها طفلها في حضور الأقارب؟ بالفعل قد يسبب الطفل إحراجًا لوالدته عندما تقول لجدّته مثلاً: «إن قالب الحلوى الذي أرسلته كان لذيذًا»، فيما الطفل قد يقاطعها بالقول: «ولكن ماما لم يكن لذيذًا ولم نحبّه». أمام هذا الموقف، على الأم أن تبتسم وتحاول أن تؤكد كلامه: «معك حق نسيت، ربما لم تحبه لأن كمية السكر فيه قليلة، ولكن في كل الأحوال شكرًا لك أيتها الجدّة». بهذه الطريقة لا تُشعر طفلها بأنها تعمدت الكذب وتتخلص من الموقف الحرج الذي وضعها فيه بلباقة. كما عليها تجنّب النظرة القاسية التي تهدده بعقاب ينتظره في المنزل. بل عندما يعودان إلى المنزل، عليها أن تشرح له أن جدته تعبت في تحضير قالب الحلوى، و «ليس لطيفًا أن نكون صادمين معها، إذ يكفي أن نقول شكرًا لأنها فكّرت فينا». من الضروري تعليمه اللباقة في الكلام وليس المجاملة. كما يمكن الأم أن تجعله يتوقع أو يتخيل الموقف إذا ما حدث مع صديقه، فهل يقبل! من الضروري أن تشرح له الفرق بين الصراحة الجارحة أو عدم التعليق. ولكن كيف يمكن الأم أن تعوّد طفلها ألا يقول ما يفكر فيه بصوت عالٍ؟ هذا يحتاج إلى الكثير من الصبر والانتظار، ولكن لتفادي الإحراج من أسئلة الطفل العلنية، يمكن الأم أن تتحدّث إلى طفلها قبل النوم مثلاً بأن هناك أمورًا لا نتحدث فيها بصوت عالٍ، خصوصًا إذا كنا نعلّق على تصرّف أو مظهر شخص موجود معنا، بل يمكن أن نؤجل التساؤلات عندما نكون وحدنا. وعمومًا الطفل بعد السادسة تخفّ لديه التعليقات أو الأسئلة الصريحة والعلنية، لأنه بدأ يدرك الاختلافات والمسافات في العلاقات. فما يمكن أن نقوله للخالة مثلاً لا يمكن أن نقوله للجارة. كما يمكن الأم أن تقرأ له القصص التي تتحدث عن الاختلاف بين الناس، وبالتالي تقل تساؤلاته العلنية المحرجة. أمّا صراحته فهو يحتاج إلى وقت كي يتعلّم اللباقة في الكلام.