رغبة في الحياة والموسيقى والبحث عن مساء ممتلئ، ولكيلا تضيع الصنائع الأندلسية يجلس عبد المجيد المودن كل مساء مع جوقته المساندة له، حاملين آلاتهم الموسيقية الأندلسية، فيبددون الصمت بغنائهم على مقام العشاق أو الرمل أو الحجازي لساعتين أو أكثر. يجتمع أعضاء "أبناء البوغاز للطرب الأندلسي" طوال أيام الأسبوع عدا الأحد في ناديهم الصغير والمؤثث بالآلات الموسيقية في حي القصبة القديم بمدينة طنجة، يحتفون ويعيدون ما حفظوه من أبيات شعرية أندلسية، فالهدف الأهم والأسمى هو الحفاظ على الطرب الأندلسي منذ تأسيس الجمعية في 1974. ثلاثون عاماً لم يكلّ عبد المجيد (مواليد 1945) ولا عازف الكمان أو الأعضاء الأوفياء للبوغاز، يقول المودن : "عندما كنا شبابا تحتم علينا إنشاء الجمعية لمزاولة التدريبات بعدما كنّا نستمع للموسيقى الأندلسية في المقاهي الشعبية، وارتأينا تسميتها بشباب البوغاز، لكن اخترنا أبناء لتبقى لجميع الفئات". ينبع اهتمام المدون وأعضاء النادي بالطرب الأندلسي من بيئتهم التي ولدوا فيها على سماع الطرب، خاصة أيام الجمعة والمناسبات الدينية والاجتماعية التي تزخر عادة بمثل هذا الغناء. يتولى عبد المجيد العزف على العود، وقد أمضى سنوات في جوق المعهد الموسيقيّ بطنجة، استفاد من تعاليمه ومبادئه وذاهبا معهم في جولات موسيقية بأوروبا وأفريقيا وحتى داخل المغرب، يقول عن النادي: "استطعنا من خلاله أن ننتج موسيقى خاصة، إضافة إلى مداومتنا على غناء الطرب الأندلسي" مشبها إنجازاتهم ب"عصارة تاريخية للموسيقى". ولم يكن هذا التحول والاعتناء بالطرب الأندلسي من خلال الجمعيات والنوادي، لو لم ينتقل من الطبقات البرجوازية عبر الإذاعة المغربية الوطنية إلى عموم الناس، كما يوضح المودن، وتنتشر حاليا في مدن الدارالبيضاء والرباط وشفشاون وتطوان وطنجة وفاس. تكرر في الجلسات النوبات الأندلسية ذاتها تقريبا بموازينها وصنايعها المختلفة، يقول: "توجد صنايع ضائعة وصنائع كبيرة فيها دخلات وخرجات يصعب على المبتدئ إتقانها، ولكننا استطعنا الحفاظ قدر الإمكان على ما توفر من الطرب الأندلسي بعد أن ضاع جزء منه، وقامت منظمة اليونسكو في هذا السياق بتسجيل كامل النوبات حتى لا يضيع منها شيء مستقبلا". متابعا: "أما نحن في النادي، نعطي خبراتنا ومعرفتنا للجيل الحديث وفق كتاب "الحايك" الذي يحتوي على إحدى عشرة نوبة للحاج إدريس بنجلون الذي وثق فيه الغناء الأندلسي جميعه، وتتطلب ممارسة الطرب الحفظ والمراجعة الدائمة. يتآلف الجميع في جوقاتهم المسائية منصهرين في وفائهم لآلاتهم وحناجرهم، فتبدأ الرباب والكمنجة والعود والدربوكة تشغل المكان، وصوت خافت من بعيد هادر، إنها عين الغاز التي يُغلى فوقها إبريق الشاي، تُغلى جيداً وتُعشّب ثم ترافق الذوق الموسيقيّ، هنا، يمكن للزائر أن يستمتع بكأسه خارج النادي، وفوق طاولة خشبية مزينة بالزهور، أو يمكن أن يميل على ألحان الجوق إذا جالسهم في الداخل ولامس كلماتهم وملامح وجوههم وأصابعهم العازفة. يمكن تعريف "نادي البوغاز" بأنه مأوى للهروب من موسيقى العنف و"الصداع" كما حبّذ تسميتها المودن، رئيس الجمعية، هو صيغة أو تحفة نادرة من الأماكن الواجب زيارتها عند القدوم إلى طنجة. موقعه لا يخطئه أي سائح، فهو قريب من متحف القصبة، وقريب من باب البحر الشهير، وصالون الشاي "صالون بلو" المطل على البحر بمشهد بانورامي ثم يهرول السائح من هناك إلى المدينة القديمة ودروبها . (*) عن صحيفة "العربي الجديد"