عندما تقرأ رحلاته لا تستطيع مطلقا أن تستوعب حقيقة هذا الرجل، محمد بن عبد الله بن ابراهيم اللواتي الذي اشتهر باسم "ابن بطوطة". كيف كان يفكر، وما كانت عقليته ونفسيته، ولأي معدن من الرجال ينتمي، ليتأتى له القيام برحلات ما كان لأحد أن يصدق أنها قابلة للتحقيق في القرن الرابع عشر الميلادي. هذا الرجل الذي ولد في طنجة في مثل هذا اليوم، أي في 24 فبراير من سنة 1304م، قام بثلاثة رحلات كبرى كأولى "الرحلات" التي عرفها العالم، وبدأها في عمر 21 سنة، عندما انطلق من طنجة قاصدا الحج سنة 1325م، لينتهي به المطاف رحالة إلى غاية سنة 1354م. زار خلال رحلاته الثلاث 44 دولة بالتقسيم الجغرافي الحديث، تقع في افريقيا واسيا وأوروبا، وبلغ مناطق نائية لم يبلغها رحالة اوروبا إلا بعد قرنين من تجواله، وأخذ هذا التجوال 30 سنة من عمره، وفارق بسببه بلدته طنجة وأهله وإخوانه وأحبابه وأصحابه، ومات والديه دون أن يراهما أو يروه. هذا الرجل قطع خلال رحلاته الطويلة الصحاري والبراري والقفار والجبال والبحار والوديان والانهار، ممتطيا الجمال والأحصنة وراكبا المراكب والسفن، تحت أشعة الشمس والامطار والرياح والعواصف، بالليل والنهار. زار قرى صغيرة ومدن كبيرة وجزر نائية، وامبراطوريات ومماليك ودول، واستقر بأكواخ وخيام، ومنازل واسعة وضيقة، وقصور الملوك والأسياد، وتزوج هنا وهناك مختلف النساء من الاسر الحاكمة إلى الاسر المتواضعة. ولم يكن مجرد رحالة يجول، بل عمل في مختلف المناطق والامصار، والبقاع والاصقاع، قاضيا وفقيها وطبيبا وسفيرا وسياسيا ومترجما ومستشارا وتاجرا ومعلما وبحارا وكاتبا أديبا وجنديا مجاهدا وكذلك مؤرخا. واجه الكثير من المخاطر، نجا من اللصوص والقراصنة، نجا من الغرق، نجا من الهلاك بامراض عدة، نجا من الطاعون والاوبئة، وفلت بجلده من الكثير من المحن والفتن، وتعرض في أحد المرات للحجز على ممتلكاته في الصين بتهم باطلة. عاشر المسلمين والملحدين والوثنين ومعتنقي مختلف الديانات، وصاحب الابيض والاسود والاصفر، وتحدث مع العرب والعجم، وخبر جميع أصناف وأجناس البشر، صغيرا وكبيرا، شبابا وشيبا. حج أربع مرات في الوقت الذي لم يكن يستطيع إليه سبيلا إلا قليلا. وفي عصر السيارة والباخرة والطائرة، يوجد من لا يستطيع له مرة واحدة، فبالاحرى أربع مرات !! . فا يله من أعجوبة خالدة خلود كتابه "تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الاسفار". مرة أخرى، لأي معدن من الرجال ينتمي ابن بطوطة؟ كيف استطاع أن يقوم بكل هذا؟ أي مهارات عقلية امتلكها ليتواصل مع مختلف البشر؟ أي نفسية امتلك كي يتحمل فراق وطنه، ويتحمل فراق أبويه ووفاتهما قبل أن يراهما؟ أي بدن امتلكه ليتحمل كل هذه المشاق والصعاب؟ ابن بطوطة ذكر عجائب الاسفار في كتابه "تحفة النظار"، ونسي أنه هو نفسه أحد العجائب، أعجوبة لا يمكن تفسيرها أو استيعابها، فما أعظمك يا ابن بطوطة وما أعجبك