في كل صباح، ما بين المنزل في مدينة سلا، وما بين مقر العمل في الرباط، حوالي ال 10 كيلومترات، أتنقل على الطريق ما بين الإذاعات الخاصة والإذاعات الحكومية، لأتتبع آخر الأخبار في المغرب وفي خارجه. في استماعي اليومي للراديو، أتابع برامج أول الصباح الباكر أو الصباح المتأخر، وأحس بالتخمة من برامج الطبخ ونصائح التجميل، كما تزعجني الموسيقى الصاخبة أو القادمة من عالم الأعراس، مع جمل من العامية المغربية موجهة للشباب ولليافعين؛ صناعة جيل المستقبل على وزن التسطيح والتتففيه. ففي كل يوم، في كل استماع للإذاعات، "تقلقني الأسئلة"، التي يمكن وصفها ب "الوصفة المثلى"، في العمل الصحافي الإذاعي، الواجب اللجوء إليها مهنيا، من أجل أفضل خدمة للمستمع، ومن ثم في خدمة المجتمع، خاصة لما تختلط علي الوصفات، من الناحية المهنية. ومع استمرار آفة الأمية الكلاسيكية، يحتاج المغرب، أكثر من أي وقت مر، للخدمة الإعلامية الأقرب للجميع، وهي الإذاعات؛ لأنها قادرة على المساهمة في بناء "نموذج مغربي اجتماعي وحضاري"، قائم على نشر الوعي والثقافة، ومحاربة مختلف أنماط التخلف الاجتماعي والثقافي وتحفيف منابع التطرف الفكري المؤدي إلى معسكرات داعش. ويصدمني مهنيا، هيمنة العامة المغربية، باعتبارها الوسيلة اللغوية المستعملة في غالب البرامج التنشيطية والترفيهية والاجتماعية والحوارية، وانتقلت إلى الأخبار في بعض إذاعات المغرب الخاصة؛ ما يعني أن العامية = الدارجات، تهيمن على البناء اللغوي المستعمل، وللأسف الإذاعات الخاصة، جرت معها لهذا الخيار اللغوي التواصلي، مع المستمعين، القنوات التلفزيونية الحكومية = العمومية. فالهاجس الكبير الذي يحرك الإذاعات والقنوات المغربية، هي الحضور لدى المستمع أو المشاهد، والحصة من نسب الاستماع الإذاعية أو المشاهدة التلفزيونية، والمداخيل من الإشهار، ويغيب الاختمام بما هو مهني وقيمي وتثقيفي حيال العلاقة ما بين الإعلام والمجتمع. ففي الإعلام المغربي، يغيب النقاش اللغوي، ومساهمة المحطة الإذاعية أو التلفزيونية، في رقي المجتمع، والدفع به للخروج من الانحطاط اللغوي، المرتبط بالأمية وبالفقر اللغوي، في اتجاه استقبال بنية لغوية سليمة وعلمية، ولتسقط مبررات أن الجمهور المستمع من المتلقين لا يفهمون العربية الفصيحة أو الفصحى. فالحاجة ماسة، في المشهد الإذاعي المغربي، لما يمكن أن أسميه ب "اللغة العربية الإعلامية" = لغة عربية مبسطة وغير سطحية، أي أن تكون أقل في السقف من اللغة العربية الكلاسيكية التقليدية، التي ترتبط بالأدب وبالشعر. فالدارجات المغربية = اللهجات، غير قابلة للكتابة لحد الساعة، وليست لغة دراسية ولا أكاديمية، ولم تخضع للتقعيد، وليس لها قواميس، وفي المغرب لا يمكن بتاتا الحديث عن عامية واحدة، وهذه القاعدة تنطبق على القنوات العربية المختلفة، التي تغزوها الألسن العامية. ويمكن للغة العربية الإعلامية، كلغة وسيطة، وكعربية مبسطة، أن تكون "طريقا ثالثا"؛ أي مخرجا مقبولا، بالنظر إلى الوظيفة التربوية، المفترضة في وسائل "الإعلام الجماهيرية"، وعلى رأسها الإذاعات، في مجتمع مغربي أو عربي عموما، لا يزال يعاني من آفة الأمية اللغوية = الأمية الأبجدية = الأمية الكلاسيكية. ومن ثم، فإن الإذاعات المغربية، لا يجب أن تقدم دورا سلبيا في ترسيخ العامية الممزوجة بمصطلحات من اللغة الفرنسية، كحامل للغة التواصل، أمام تراجع متواصل للغة العربية الكلاسيكية. هذه الآفة السلبية في تقديري، تسللت إلى التلفزيون العمومي = الحكومي، ما يتسبب في ترسيخ العاميات كلغة تواصلية جماهيرية، وهذا يدعم الأمية اللغوية، وهذا خيار مغربي لغوي فاشل، ومدمر لكل مشاريع الإصلاح في التعليم. وإلى محاربي العربية في الإعلام، تابعوا المشاهدة الجماهيرية الواسعة في المقاهي، للتعليق بالعربية الفصيحة، على مباريات كرة القدم، خلال أفضل مباريات الدوريات الأوروبية، في نهايات الأسبوع. وأقترح أخيراً التفكير في "مختبر لغوي إعلامي في المغرب"، لتبسيط اللغة العربية، باستعمال كلمات سهلة الفهم، وهي ما يمكن تسميتها باللغة الإعلامية الجماهيرية أو "العربية الإعلامية". ففي تقديري، فإن اللغة العربية، يمكنها أن تكون وسيلة للتنمية الحضارية والفكرية للمغاربة عبر الإذاعات الخاصة، وعبر القنوات التلفزيونية التي يتوفر عليها المغرب، شريطة الاعتماد على القواعد المهنية، وعلى لغة عربية مبسطة وفصيحة، وليس لهجات الشارع، للوصول للآذان وللعقول وللقلوب.