إنتهى الرهان على إعادة الانتخابات من قبل الأحزاب السياسية لحل مشكل البلوكاج الذي ما فتئ يسقط فيه النظام السياسي الاسباني يوم العاشر من نونبر 2019. لقد تناسلت خلال الفترة السابقة للانتخابات الممتدة من شتنبر الماضي الى تاريخ العاشر من نونبر، توقعات واستطلاعات محملة بآمال كبيرة في أن تؤدي إعادة الانتخابات إلى إفراز أغلبية منسجمة تيسر تشكيل الحكومة. الجميع في اسبانيا ينتظر تشكيل الحكومة بفارغ الصبر، فالأزمة استفحلت وشملت قطاعات حيوية بالنسبة للدولة الاسبانية. ساكنة اسبانيا من مواطنين ومهاجرين يشعرون جميعا بآثار البلوكاج الذي أثر على جميع مناحي الحياة، من سير الخدمات الإدارية العادية إلى الركود الاقتصادي وإلى المشاكل السياسية التي تتخبط فيها اسبانيا. لهذه الأسباب أصبح تشكيل الحكومة بوابة لحل هذه المشاكل، حيث يراهن على حكومة قوية قادرة على الخوض بشجاعة في حل مشكل كاتالونيا، كما تراهن نسبة واسعة من الشعب الاسباني، وهي تزيد تدريجيا في الاتساع، بحل مشكل الهجرة وما يرتبط بها، وهو ذات الرهان الذي تحمله فئة واسعة من المهاجرين التي كانت تمني النفس بفوز كاسح لليسار، بالنظر إلى ما أصبحت تشعر به من تهديد قادم من اليمين. الانتخابات السابقة لأوانها التي جرت يوم 10 نونبر 2019 تقتضي تسجيل الملاحظات التالية: * الاقتراع يتعلق بانتخاب غرفتي البرلمان (الكورتيس العام)، أي الغرفة العليا التي يمثلها مجلس الشيوخ والغرفة السفلى ويمثلها مجلس النواب. ومن الطبيعي أن تحجب عمليات انتخاب الغرفة السفلى العمليات المتعلقة بالغرفة العليا، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن القرار المتعلق بتشكيل الحكومة يرتبط بالنتائج المتعلقة بانتخاب الغرفة السفلى، وهو القرار الأكثر أهمية في اسبانيا في الوقت الحالي. بيد ان النتائج المتعلقة بانتخاب مجلس الشيوخ لم تعدم أهمية وإثارة لدى المتتبع الاسباني، لاسيما في علاقته بقضية كاتالونيا، حيث أن النتائج شهدت تراجع تمثيلية الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني مقارنة مع ما كان قد حققه نفس الحزب خلال انتخابات الثامن والعشرين من ابريل الماضي، حيث فقد الأغلبية المريحة التي كان يتمتع بها على صعيد هذه الغرفة. وجدير بالاعتبار أن أهمية هذه الغرفة تظهر في علاقتها بقضية كاتالونيا، حيث لم يعد بمقدور الحزب الاشتراكي العمالي أن ينفرد بتفعيل آلية الفصل 155 من الدستور، فتفعيل هذا الفصل يتوقف على تصويت مجلس الشيوخ بالأغلبية المطلقة، مما يفرض في حال رغبته اللجوء إليها التحالف مع حزب أو أكثر من التشكيلات الحزبية الممثلة بالمجلس، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يتعلق الأمر بأحزاب اليسار التي تتمركز قوتها في الجهة المذكورة، وفي نفس الوقت لا يمكن أن تكون من اليمين لأسباب متنوعة من جملتها أن من شأن ذلك التأثير على تحالفه الحكومي الممكن والأقرب إلى التحقق في الظروف السياسية الراهنة وهو التحالف مع أحزاب اليسار. * تراجع نسبة المشاركة الانتخابية مقارنة مع انتخابات 28 ابريل هو تراجع مقبول، وذلك بالنظر إلى كون الفارق لم يتعدى مليوني صوت، فمن 26 مليون خلال ابريل إلى 24 مليون خلال انتخابات العاشر من نونبر الحالي، تمثل نسبة مشاركة عادية بالنظر إلى الملل الذي يمكن أن يكون قد أصاب الناخب الاسباني جراء مشاركته في أربع استحقاقات خلال هذه السنة، وهي الانتخابات التشريعية ل 28 ابريل 2019 ثم الانتخابات الجماعية وانتخابات البرلمان الأوربي بتاريخ 26 مايو ثم انتخابات 10 نونبر 2019. وفي حقيقة الأمر يجوز اعتبارها نسبة مشاركة مرتفعة، فلو جرت هذه الانتخابات بهذه التواتر في ظروف أخرى لما حققت نسبة مشاركة بهذا الحجم، ويمكن أن نفسر عدم انخفاضها البين برغبة الإسبان في اجتياز مرحلة الجمود والشلل الحكومي، الذي أصبحوا يشعرون بآثاره على جميع المناحي ومن جملتها المعيش اليومي للمواطن. الانخفاض النسبي للمشاركة يمكن أن نرجع جزء منه إلى الإنهاك الذي أصاب الأحزاب المشاركة في الانتخابات، حيث لاحظ المتتبعون فتورا في عدد أنشطتها الدعائية خلال الحملة الانتخابية، واقتصارها في غالب الأحيان على الظهور عبر وسائل الإعلام العمومية. الفئة الوحيدة التي كان من شأنها الرفع من نسبة المشاركة هي فئة غير مصوتة، وهي معنية مباشرة بتصاعد حضور حزب فوكس اليميني العنصري، وهي فئة المغاربة الغير الحاصلين على الجنسية الاسبانية، والذين خصهم في خطابه السياسي بالطرد من اسبانيا بمبرر انه لا تجمعهم بالمجتمع الاسباني أي روابط ثقافية، ملمحا بذلك إلى روابط المعتقد الديني. * الدرس الكتلاني: غرد “كيم توررا” ليلة الإعلان عن النتائج على حسابه في تويتر قائلا: “لا يمكن أن تحكم اسبانيا دون الإنصات لكاتالونيا”. وهذا الكلام لم يكن من فراغ، بل من واقع ما تشكله الأحزاب الكاتالانية على رقعة مفاوضات تشكيل الحكومة، بعد الاستحقاقات الانتخابية خلال 2019، حيث أصبحت رقما أساسيا بعدد المقاعد التي حصلت عليها والتي بلغت 24 مقعدا، وهو عدد كافي لترجيح كفة حكومة ائتلافية يقودها الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني بمعية “حزب بوذيموس”، علما ان تعبير الكتلانية لا نقصد به المنشأ الجغرافي للحزب؟ والدرس هنا في نظري يتجلى في الوعي السياسي لدى الناخب الكاتالوني بأهمية المشاركة الانتخابية ونضجه في التعامل مع قضاياه، وهو وعي يقوم على قناعة مفادها التواجد بكافة المؤسسات الدستورية والاقتناع بلا جدوى المقعد الفارغ. لذلك لم يسجل على الكاتلانيين مقاطعتهم للأحزاب ولا للانتخابات ولا للتفاوض مع الحكومة المركزية. * درس في تحمل المسؤولية “ألبير ريفيرا” هو رئيس حزب “سيوذاذانوس” (مواطنون)، يعتزل السياسة في سن الأربعين. اعتزاله جاء عقب الهزيمة التي تلقاها حزبه بتراجع كبير في عدد مقاعده في مجلس النواب، حيث من أصل 57 مقعدا حصل عليها في 28 ابريل الماضي فقد يوم العاشر من نونبر الحالي 47 منها، ومن ما يفوق أربعة ملايين صوت حصل عليها في ابريل الماضي تجاوز بقليل المليون ونصف صوت خلال الانتخابات الأخيرة، وبالتبعية تراجعت مرتبته في الساحة الحزبية من المرتبة الثالثة إلى المرتبة السادسة. “ريفيرا” هو الرئيس المؤسس، كان بإمكانه أن يقتات على شرعية كبيرة راكمها طيلة خمسة عشر سنة من عمر الحزب، تجسدت في جعله حزبا له امتداد وطني منذ 2014 بعد ان كان حزبا ينحصر نشاطه في كاتالونيا، كما تجسدت في حضوره وتسييره أو مشاركته في تسيير مئات من الجماعات الترابية، وحضوره بتمثيلية هامة على صعيد البرلمان الأوربي، بالإضافة إلى حضوره داخل البرلمان الاسباني. كان بإمكانه أن يواصل تسيير الحزب، فما حققه معه لم يكن قليلا، فقد أصبح الحزب ورئيسه وجها بارزا في الساحة السياسية الاسبانية، لكنه على العكس فضل أن يتخذ قراره بالاستقالة من رئاسة الحزب ليترك المجال لنخب جديدة تقود الحزب، مجسدا بذلك إيمانا قل نظيره بمبدأ المسؤولية. وليس ذلك فحسب، فلقد استقال أيضا من البرلمان، معتبرا في كلمة له أنه لا يستطيع القيام بأعباء العضوية البرلمانية، وأن هذه العضوية لا يمكن أن يحتفظ بها من اجل راتب او تعويض شهري، فالعضوية البرلمانية شرف ومسؤولية وإحساس بالحياة والحياة العامة. لقد توج “ريفيرا” مسيرته السياسية صبيحة اليوم الموالي للانتخابات بالقرارات المشار إليها، وكان آخر هذه القرارات هو اعتزاله للسياسة، وعودته إلى حياته المدنية. * انتهى مسلسل تشكل القطبية الثنائية في النظام الحزبي الاسباني لقد بينت النتائج الانتخابية للعاشر من نونبر، أن “الحزب الشعبي الاسباني” و”حزب سيوذاذانونس” وحزب “فوكس” اليميني العنصري هي ثلاث تشكيلات حزبية تتقاسم نفس القاعدة الانتخابية، وما يبين ذلك هو التلازم الذي يحصل بين ارتفاع عدد أصوات وعدد المقاعد إحدى التشكيلات المذكورة مع انخفاضها عند التشكيلتين الأخريين أو العكس. فلقد سجلت انتخابات 28 ابريل الماضي نكسة في نتائج الحزب الشعبي، حيث نزل عدد مقاعده في مجلس النواب إلى 66 مقعد، فيما حصل سيوذاذانونس على نتيجة مبهرة تمثلت في حصده ل 57 مقعدا وحصول فوكس على 24 مقعدا، حيث أن الحزبان صعدا على أنقاض الحزب الشعبي، وهي الفرضية التي أصبحت تؤكدها نتائج الانتخابات السابقة لأوانها والتي تبين أن سقوط حزب “ألبير ريفيرا” استفاد منه فقط الحزب الشعبي الذي أضاف الى رصيده 22 مقعدا، وحزب فوكس الذي أضاف إلى حصيلته 28. ما يؤكد هذه الفرضية هو ان أحزاب كتلة اليسار لم تستفد من هذا التذبذب البارز في نتائج أحزاب كتلة اليمين، حيث إن نتائجها بقيت شبه مستقرة إلا من تراجعات بسيطة، فقد على إثرها حزب سيوذاذانونس سبعة مقاعد والحزب الاشتراكي العمالي ثلاثة مقاعد، وهي تراجعات يمكن تفسيرها بتململ للقاعدة الانتخابية لليسار ناحية تشكيلات سياسية أخرى قديمة أو جديدة تمثلت في الأحزاب اليسارية الجهوبة والمحلية وفي حزب “ماس باييس” الذي يتزعمه “ايريخون” المنشق حديثا عن حزب سيوذاذانونس. إن التاريخ السياسي لزعامات الأحزاب اليمينية تبين أن الحزب الشعبي هو أصلها، وأنها قامت على أنقاض هذا الصرح، ويمكن في هذا الباب أن نشير إلى زعيم حزب فوكس اليميني المتطرف “سانتياكو أباسكال”، الذي قضى ما يزيد عن 19 سنة يناضل داخل صفوف الحزب الشعبي. لهذه الاعتبارات أصبحت معروفة، منذ ظهور نتائج الاقتراع، الوجهة التي سيقصدها بيذرو سانتشيز في مفاوضات تشكيل الحكومة، وهو ما تبينه التعاقدات الأولية المتمخضة عن المفاوضات الأولى مع حزب “بابلو إكليسياس”، فالوجهة الممكنة هي اليسار، وهو ما بينه فشل مفاوضات تشكيل الحكومة في أعقاب انتخابات ابريل الماضي، ولهذا السبب ليس متاحا في اسبانيا أي تحالف بين التشكيلات المنتمية إلى قطبين مختلفين إلا في حالات استثنائية ربما. * دروس الكفاءة ودورة النخب السياسية المتأمل في القيادات الحزبية الحالية سيعتبر ولا شك. فالمعطيات التالية ليست بدون سبب، وليست بلا أثر أو معنى: * بيذرو سانتشيز رئيس الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني، مزداد في 1972، حاصل على دكتوراه في الديبلوماسية الاقتصادية الاسبانية سنة 2012؛ * بابلو كاساذو رئيس الحزب الشعبي، مزداد في 1981 وحاصل على الماستر في العلوم الإدارية؛ * بابلو اكليسياس رئيس حزب بوذيموس، مزداد في 1978 وحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية؛ * البير ريفيرا رئيس حزب سيوذاذانوس، مزداد في 1979 حاصل على الإجازة في القانون؛ * سانتياكو أبسكال رئيس حزب فوكس، مزداد في 1976، حاصل على الإجازة في السوسيولوجيا وله كتابات عدة؛ * انييكو إريخون، زعيم حزب “ماس باييس” مزداد في 1983، حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية. المعطيات المشار إليها تبين أن أكبر رؤساء الأحزاب الأساسية الاسبانية سنا هو بيذرو سانتشيز ويبلغ من العمر 47 عاما، وان رئيس حزب سيوذاذانوس أنهى حياته السياسية بالاستقالة والاعتزال وهو في الأربعين من العمر. *أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بطنجة