إلى الصديق محسن ها نحن نتجرّع نفس الكأس منذ الأزل حتى يوم القيامة. وحدها الصدفة وضعت هذا المقال بجزأيه في الوقت غير المناسب. أثق في صلابتك وإيمانك. من قال إن الموتى لا يتكلمون؟ إنهم لا يتوقفون عن الكلام، غير أنهم يتكلمون بأفواه الأحياء. أدونيس( فضاء لغبار الطّلع) العبرة أن تجعل كلّ حاضر غائبا، والفكرة أن تجعل كلّ غائب حاضرا. أبو عبد الله السجزي (ديوان النثر العربي لأدونيس) .9 . كلما تذكرتك أحسستُ مدية حادة مسنّنة صدئة تجتزّ الروح. ( تسألني: - ماذا تقرأ؟ - أقرأ ريتسوس ومحمد خير الدين - كبرتَ بعيدا عني - كبرتُ وأنت..؟ - أقرأ وجه أمي وعذابات الخريف) وفي الخريف يفرد طائر السنونو جناحيه ويرحل. بصبر الأنبياء وبكبرياء لا حدود له خبأت مرضك عن الدنيا، أخفيته، قاومته، ومضيت وحيدا كما كنتَ دوما إلى نهايتك، وحيدا في مشفى بنيويورك بلا امرأة ولا أطفال ولا أصدقاء. لا أحد يعرف فيما كنتَ تفكر، وما كانت كلماتك الأخيرة، وإلى أين شخصت عيناك قبل أن تغمضهما إلى الأبد. .10. آخرمرة تحدثنا طويلا في الهاتف، كنت كعادتك شلالا من الكلام، تسأل عن كل شيء؛ عن ساعات النوم، وساعات القراءة، ونوع الأصدقاء، وإن كنتُ أمارس الرياضة كما تحب، وعن التدخين وضرورة الإقلاع عنه، والاهتمام بالدراسة وتعلّم اللغات.. رغم غربتك الطويلة في مدينة خانقة وثقيلة لم تفقد لهجتك المراكشية ومرحك. كنتُ أستمع إليك أكثر مما أتكلم. في صغري كثيرا ما كانت تعاتبني أمي لأني لا أقول لك ما أعدّ نفسي لقوله. كبرتُ وظلّت تعاتبني. والآن، بعد تسع سنوات وأسبوع بالتحديد، إن كنت تسمعني، أود أن أقول لك؛ -أشتاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااق إليك، متى ستعود؟ .11. أعود لصورتك، أحتفظ بواحدة فقط، فأراك تشير بيدك اليمنى إلى الأفق ناظرا إليّ بكل بهائك وأنت على وشك الكلام. أكتشف أني أخبئ الصورة منذ قرن بين ملابسي القديمة في الدولاب كأني أخاف أن أضعها في ألبوم صور أو في إطار. كأني أخاف أن أراك. ولكنني أراك.. .12. ( سكنى التربة أغرب الغربة) يقول المعرّي. .13. وأنت يا قارئي إذا مررت بتربة قرب نيويورك حيث يجثم قبر الغريب بلا اسم ولا شاهدة، فاعلم أن الجسد المسجّى هناك منذ تسع سنوات وأسبوع بالتحديد يحمل بعضا منّي. وإذا استطعت إقرأ على روحه الفاتحة، وبلّغه سلامي وسلام أخي وأختي، وسلام أمي. تقول أمي ( لا أنت من هنا ولا من هناك). .14. ..وهناك، على بعد ساعتين من مدينة بعيدة وفاتنة، ثقيلة وخانقة، يرقد جثمانك الغريب يا أيها الغريب ابن الغريب ابن الغريب بلا اسم ولا شاهدة ولاهوية أيضا؛ فمنذ اخترتَ أن تحوّّل اسمك إلى "أيور" بقيت مرميّا بين هويتين أو ثلاث. كأني أراك، سعيدا بما كنتَه دوما؛ معلّقا بين السماء والأرض لا تنتمي إلا إليك. وهناك تبدو نيويورك بعيدة وفاتنة. أما الآن فهي بعيدة وكفى. .15. كل شيء يذكّرني بك.. حتى أونجاريتيUngaretti ، وهو يرثي صديقا له لا يعرفه أحد، يذكّرني بك. ( في ذكرى محمد شهاب سليل الأمراء البدو الذي انتحر بعد أن لم يعد له وطن أحب فرنسا فحوّل اسمه إلى مارسيل لكنه لم يكن فرنسيا قط ولم يعرف بعد كيف يعيش تحت خيمة ذويه .... إنه يستريح الآن في مقبرة إيفري .... ربما كنت أنا وحدي الذي يعرف بعد أنه عاش وسوف أظل أذكره حتى يأتي دوري وأموت)