الغريب في الغربة مثل الميت. مثل شجرة بتقلعها من أرضها المروية وبتزرعها برمال الصحراء. حيدر حيدر. هجرة السنونو إنها إذن قصة خاصة جدا، أعرف أن كثيرين سيهزون أكتافهم حيالها ويقولون: ومالنا ولهذا القول الذاتي الخاص. قصة يموت الزمار( مجموعة أقتلها) يوسف إدريس اليوم؛ الخامس عشر من نونبر 2011، وقبيل فجر اليوم الموالي تماما ستكتمل كما تنتهي تسع سنوات من رحيلك المفاجىء، الرحيل الذي ما أزال أحسه في الحلق والصدر كوخز الإبر لا أستطيع منه فكاكا. اليوم وبعد كل هذا العمر، وبعد محاولات عديدة لا يحدّها ألم، أقرّر الكتابة عنك لا لشيء إلا لكي أرتاح. من قال إنكَ مع الكتابة سترتاح؟ .1. منذ ستة وعشرين عاما وأنا أراك تحمل حقيبتك وتغادر. قبل ذلك ودونما سبب واضح اقتلعنا شجيرة الليمون الوحيدة التي كانت تتوسط فِناء الدار، وتؤثت سماء الطفولة. بعدها، كأنما اتفاقا بينكما، ستحمل حقيبتك وتغادر. سيمر عمر طويل لأعرف لماذا بكتك أمي يومها بحرقة؛ آخر أعمدة الخيمة الدار سينهار، وعلى الأم الشابة آنذاك أن تتحمل عبء ثلاثة أطفال؛ عليها أن تكون الأم والأب والأخ الأكبر؛ عليها أن تكون الحياة. قرب الباب عانقتك طويلا كأيّ طفل سيُترك في خلاء على أبواب الليل، سيُترك وحيدا لأنياب الليل. والعمر ليل يا حبيبي، والعمر ليل.. .2. ليلا تسافر وليلا تعود، كأن حياتك تستمرّ بين ليلين. أغفو وأنام.أسمع صوتك. تناديني باسمي يااسمي، يا أنا، يا جرح الروح. تملأ كفك بقطع النقود. تضمّها. تقرّبها من أذني. تحرّكها، فأعرف أنك أنت. من غيرك في الدنيا يوقظ طفلا في الثانية عشرة من عمره بهكذا طريقة؟ .3. منذ ستة وعشرين عاما وأنا أراك تحمل حقيبتك وتغادر. في غرفتك سأكبر؛ حيث خزانتك الملأى بالكتب والصور والكلمات، كأنها غرفة كونية تحتلّ أقصى ما سيصيرغرفتي بعد رحيلك. ألستُ أكبر إخوتي، والكتب والخزانات تُورّثُ كما البلدان؟ سأصير ملكا إذن على غرفتك، وأكبر في خزانتك. كل لغات الدنيا بين يديّ، كل الكتب والمجلات؛ العربي والوطن العربي والمجلة واليوم السابع والمسلمون والوعي الإسلامي والجماعة والأمة والمنفلوطي وNewsweek وNational Géographie وScience et vie و Jeune Afrique وجبران ويحيى حقي وسلامة موسى وسيرة ابن هشام والبوطي وغارودي وماركس وانجلز وبروتوكولات حكماء صهيون وكتب الإخوان والمؤمنون والملحدون واللاأدريون وكتب الطبخ وكرة القدم والأثاث والطبيعة والأزياء والعارضات الفاتنات والعاهرات... وما لم أعد أتذكره الآن. كأنه برج بابل في غرفتنا وغرفة أخي وأختي من بعدي؛ فكيف لاأكبر وتكبر مراهقتي، لأراني بعد ثماني سنوات مثلك تماما أحمل حقيبتي وأغادر؟ .4. تباعا ستأتي رسائلك وصورك وهداياك. ونيويورك تبدو بعيدة وفاتنة كأنها جنة الدنيا. تحت إلحاح الوالدة سأجلس وفق طقوسها المتعبة أحيانا لأكتب إليك. وبعد السؤال عن أحوالك، والشكوى من كل شيء؛ من غلاء المعيشة ومصاريف الدراسة وحال البيت العتيق وأحوال العائلة ومشاكلها، وبعد طلب المال، ستسأل أمي، وأسألك؛ متى ستعود؟ لكن الغريب الذي هاجر منذ أكثر من ربع قرن لم يعد. ظلّ هناك وهناك ضلّ. تعودتُ على الكتابة إليك. أما الآن، وبعد تسع سنوات كاملة، وأنا أحاول الكتابة عنك، ولا أستطيع. .5. يقول أعرابيّ؛ ( خيرٌ من الحياة ما إذا فقدتَه أبغضتَ لفقده الحياة، وشرٌّ من الموت ما إذا نزل بك أحببتَ لنزوله الموت) ويقول المتنبي الكبير( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا) .6. وحيدا في غرفة باردة في هذه المدينة الباردة، يرن الهاتف بداية ليل. يجيء صوت أخي الأصغر الأصغر لينعيك. ليلتها... (..وإنّي راحلٌ قلتَ لي وإنّي راحلٌ قلتُ لي رغم نبضي وضحْكي ولمّ الصحاب) وأمضي رغم نبضي أفكر في الكتابة عنك لعلّي أرتاح. .7. ( فضَح الموتُ الدنيا) يقول الحسَن. من قال إنّي بحاجة إلى التفكير في الموت حتّى أفكر فيك؟ .8. كل شيء يذكّرني بك... حتى ماياكوفسكي Maïakovski؛ هذا البدوي فارع الطول والشِّعر، القادم من القوقاز، يذكّرني بك. (أتسلق مزهوا جسر بروكلين هكذا ثملا بالكبرياء جائعا للحياة .... أرى نيويورك عبر جسر بروكلين نيويورك خانقة وثقيلة قبل المساء نسيت ألامها، ناطحاتها ووحدها أرواح المنازل تتراءى في ضوء النوافذ الشفاف) يُتبع.....