أمام ما يجري حولي في العالم سواء على المستوى العام أو الخاص أعود دائما إلى الفن لفهم ما يجري، ومن أجل الاتكاء عليه علّني أجد فيه بعض العزاء. أقصد عادة الفن الذي تحرّرت إبداعاته من قيود الزمان والمكان والأنا لتعانق هموم الإنسانية جمعاء في كل زمان ومكان. يتقرر جوهر الفنون الأصيلة إذن في إمكانية عيشها خارج زمانها؛ هكذا ستظل حية في ذاكرة الإنسانية ملحمة جلجامش والإلياذة والأوديسة وكتابات إسخيليوس؛ بروموثيوس في الأغلال على سبيل المثال، مرورا بمسرحيات شكسبير وسعد الله ونوس وأشعار المتنبي وريتسوس وماياكوفسكي وقوانين السكان الأصليين في أمريكا وموسيقى الشعوب وتشايكوفسكي والنقوش على جدران الكهوف وأحدث التصاميم المعمارية في أنحاء العالم و"موبي ديك" و"ذهب مع الريح" و "دون كيشوت" وأفلام شارلي شابلن وأنطوني كوين ورقصة زوربا وإيزادورا وغيرها ممّا يصعب حصره. .1. العرّاب حكاية عائلة صقلّية قدمت إلى الولاياتالمتحدة أواسط القرن العشرين لتصبح واحدة من أشهر عائلات المافيا الإيطالية بها وأقواها؛ الحكاية المقتبسة من رواية ماريو بوزو ستُنقل إلى السينما في ثلاثة أجزاء بداية من عام 1972 على يد المخرج السينمائي فرنسيس فورد كوبولا لتدخل تاريخ الأيقونات السينمائية العالمية بامتياز. من منا ممن شاهد الجزء الثاني من الفيلم لم يتأثر باللحظة الحاسمة التي بدأ فيها الابن مايكل كورليوني يسيطر على نشاطات الجريمة المنظمة في مدينة نيويورك وإحكام قبضة عائلته عليها؛ موسعا بذلك ما بدأه والده الدون فيتو كورليوني؛ حيث سينفذ رجال الإبن عددا من الاغتيالات في صفوف العائلات المنافسة؛ تصفيات جسدية لم يستثنى منها أحد أبناء العائلة، الأخ ألأكبر لمايكل في مشهد استثنائي برع فيه مخرج الفيلم، حين استُدرج الأخ المُحب للصيد إلى عرض البحر، وعلى أنغام قراءات بينات من الكتاب المقدس سيطلق عليه الرصاص، وتُلقى جثته في البحر. على مر الزمان سيتكرر المشهد؛ مشهد الحلف المقدس بين العائلة والمال والسلطة والدين أحيانا، ومشهد تصفية رجل وإلقاء جثته في البحر. .2. لا أستطيع إلا التفكير في أمل دنقل هذه الأيام. شاعر لا يموت هذا الجنوبي القادم من صعيد مصر إلى سماء الشعر، اختطفه الموت باكرا، وباكرا ترك لنا قصائد تنبض بالحياة. كيف سننسى "لا تصالح" و"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و"الكعكة الحجرية" و "تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات وغيرها؟" مثل النبوءة والوصايا الملغومة رمانا بقصائده ومضى. (" قلت لكم مرارا إن الطوابير التى تمر.. فى استعراض عيد الفطر والجلاء (فتهتف النساء فى النوافذ انبهارا) لا تصنع انتصارا. إن المدافع التى تصطف على الحدود، فى الصحارى لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء. إن الرصاصة التى ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء: لا تقتل الأعداء لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا تقتلنا، وتقتل الصغارا .")
من لم يسمع أمل جيدا سيسمعه منذ مطلع هذا العام إلى اليوم. كأنه يتحدث الآن. هكذا يتجاوز الشاعر الحقّ حدود عصره ليصبح شاهدا عليه وعلى ما سوف يأتي. لكن أهي قدرة الشاعر الاستثنائي على استشراف المستقبل؟ أم أنه الواقع المرّ الذي لم يتغير منذ أكثر من نصف قرن؟ ربما منذ أكثر من ألف عام.