فوضى أمنية ،وحراك سياسي مضطرب ، ونوايا خفية تحمل في طياتها الكثير من علامات الاستفهام ، حول ما ترسمه الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفائها لمستقبل العراق والمنطقة ، تفصح عنها بين الحين والآخر على شكل رسائل مباشرة وغير مباشرة تمثل بالونات اختبار ، للإرادة الوطنية العراقية ، ومدى قدرة الحكومة العراقية على مواجهة مثل هكذا أزمات والتعامل معها . بدأت هذه الرسائل بعودة أمريكا مرة أخرى إلى العراق من الشباك بعدما خرجت مرغمة من الباب ، بعملية استعراضية ، مجهولة الأهداف والنتائج ، في بقعة من ارض العراق لا تشكل أي بعدا سيتراتيجي أو تعبوي ،على الحرب الدائرة الآن في الرمادي والأطراف الشمالية لقضاء بيجي المحرر ،وهي عملية الحويجة العسكرية التي قامت بها النخبة من الفوات الأمريكية المحمولة جوا بمساعدة قوات البيشمركة ، تعيد الى الولاياتالمتحدة الأميركية مرة اخرى الى الواجهة في المشهد السياسي والعسكري في العراق ،وتثير عدة تساؤلات حول الأسباب الرئيسية لهذه العودة الغير ميمونة ، وتوقيتها ، والهدف من وراءها ،الذي أشارت بعض التقارير انه يحمل في ثناياه اعتبارات إنسانية ، لإنقاذ مجموعة من العراقيين كان مقدر لهم ان يعدموا في صبيحة اليوم التالي للعملية على أيدي داعش . لا احد ما بأمكانه أن يزايد على الدم العراقي ،ولا احد يستطيع أن يعترض على مثل هكذا عمليات عسكرية الهدف منها إنقاذ أرواح عراقيين أبرياء من معتقلات الجماعات الإرهابية .. لكن الشارع العراقي ما زال يتسائل ، من هم الذين تم إطلاق سراحهم ..؟.. ولماذا اختارت أمريكا هذه المجموعة بالذات لتعمل على إنقاذها ، بينما سجون داعش مليئة بالعراقيين منذ عام ونصف ، ولم تخطو أمريكا خطوة واحدة لمساعدتهم ومنحهم الحرية .؟. كما أنها لم تفعل ذلك مع الجنود الذين حوصروا في الصقلاوية ومن قبلهم ضحايا مجزرة سبايكر . ولماذا اختارت أمريكا ان يكون شريكها في هذه العملية قوات البيشمركة وليس القوات العراقية الخاصة التي تمتلك مؤهلات كبيرة من الخبرة والتسليح تفوق قوات البيشمركة بكثير ..؟. الرسالة الثانية دعوة الكونغرس الأمريكي لبعض الشخصيات العراقية المطلوبة قضائيا والمتهمة بدعم الإرهاب للتباحث معها ، في أمور هي خارجة عن صلاحية الطرفين ، ومن ثم اجتماع السفير الأمريكي ببعض القيادات السياسية والعسكرية المحلية في محافظة الانبار بصورة رسمية متجاوزا في فعلته هذه كل الأعراف الدبلوماسية ، ومهامه كسفير يرعى مصالح بلده في العراق .. وبعدها جاء تأسيس اللجنة التنسيقية للمحافظات الستة (السنية ) كما أطلق عليها المجتمعون في عمان ، والهدف المعلن لها هو دعم المحافظات التي تحارب الإرهاب ومن ثم العمل على أعمارها ، غير إن هذا الاجتماع واللجنة التي انبثقت عنه ما هي إلا الخطوة الأولى لمشروع تقسيم العراق الذي دعا إليه نائب الرئيس الأمريكي منذ أعوام ، والمدعوم من بعض الدول العربية ودول الإقليم ، لكن اخطر هذه الرسائل التي تصب في هذا السياق هو ما قامت به تركيا مؤخرا بإدخال قواتها العسكرية بأسلحتها الثقيلة إلى الأراضي العراقية دون علم او موافقة الحكومة الاتحادية العراقية ، تحت ذرائع وتبريرات واهية ومتضاربة ، منها تدريب القوات المخصصة لتحرير الموصل .. غير ان دخولها السافر هذا ما هو إلا محاولة منها لوضع موطئ قدم لها على ارض العراق للحفاظ على مصالحها ،ولإحياء مشروعها العثماني القديم بضم الموصل إليها .. وسط تباين حاد في مواقف النخبة السياسية العراقية بين رافض وصامت ومؤيد . كل هذه الرسائل تمثل انعكاسا وردة فعل لما يحدث خارج الحدود العراقية ، من خلال متابعة ما يحدث الآن في سوريا ، والأثر الكبير الذي تركته الضربات الجوية والصاروخية الروسية على طبيعة الصراع هناك ، وتغيير المعادلة العسكرية التي ظلت تراوح لأربعة أعوام لصالح الحكومة السورية بفعل هذا التدخل ، الذي قلب الطاولة على الجميع وأولهم أمريكا .. مما صعب المهمة عليها في تنفيذ مخططاتها في العراق والمنطقة . كما إن عملية الحويجة هي محاولة من الحزب الديمقراطي لتلميع صورته داخل الرأي العام الأميركي ، الذي انتقد أداء هذا الحزب في إدارة الأزمة في العراقوسوريا ، ومحاولة استعراضية الهدف منها جذب الأنظار اليها مرة أخرى بعدما سرقها منها الدب الروسي القادم بثقة وإصرار كبيرين على دحر الإرهاب التي ظلت تغازله لسنوات . لكن الغريب في هذه القضية هو ما حدث بعد هذه العملية على الصعيد الداخلي العراقي .. الحكومة العراقية بقيت صامتة ولا يعرف الشعب علمها من عدمه بهذه العملية ، ووزارة الدفاع تنفي علمها في الأمر ، والإقليم الكردي يرحب ، ورئيس البرلمان الاتحادي يشكر ويهنأ ..وبغض النظر عن تفاصيل ما جرى وحقيقته ، فان هذه الفوضى تعكس جزء مهما من الواقع السياسي العراقي الذي يترنح تحت وطأة القومية والطائفية والفئوية للاثنتي عشر سنة الماضية ، وهذا التخبط في المواقف السياسية هو ما جعل تركيا تتجرأ لتدخل الأراضي العراقية وتقيم معسكرا لها في بعشيقة التابعة لمدينة الموصل ، دون علم الحكومة المركزية أو موافقتها وبضوء اخضر أمريكي .. وقد أوصلت أمريكا رسائلها إلى الحكومة العراقية والشعب العراقي ، والتي مفادها.. إن أمريكا مازالت تمثل رقما صعبا في المعادلة السياسية العراقية ،مستغلة الخلافات وتباين المواقف بين مكونات النسيج السياسي العراقي ، وإنها تتعامل مع العراق من مبدأ التبضيع والانتقائية على أساس القوميات والطوائف والمناطق لا على انه بلد موحد ذو سيادة .. وعلى من يريد أن يذهب الى تحالفات واصطفافات جديدة ، تتقاطع مع توجهات أمريكا الخبيثة في المنطقة ، ويحاول الخروج من تحت عباءتها ،كالتحالف مع روسيا وإيران ، فليذهب لوحده بعنوانه الطائفي والمناطقي لا عنوانه الكبير وهو العراق .. لكن هذه الرسائل والمخططات سوف تصطدم بكثير من الإرادات التي ستعمل على إفشالها ، منها وطنية داخلية متمثلة بالحشد الشعبي وفصائل المقاومة وأخرى خارجية كالحضور الروسي القوي في المنطقة.