تتساقط مدن عربية، واحدة تلو الأخرى، تتهاوى مناطق على تخوم خطوط التماس المعلنة والخفية، على أيدي «داعش» في العراق وسورية، والحوثيين في اليمن... أي مدينة عربية أو عاصمة على اللائحة؟ فكما ل «داعش» خلايا وأنصار، لإيران جيوش صغيرة تتحرك على مساحات متباعدة في المنطقة العربية. ولكن، ألا تعلن طهران ليل نهار أنها لا تعمل ولا تتدخل ولا تتحرك إلا بنيّات طيبة، ولمصلحة المسلمين أينما كانوا؟ مع تنظيم «داعش» لا مشكلة في تصنيفه، وهو لا يخفي نيّاته مهما بلغ زيف ادعائه احتكار تطبيق الشريعة، أياً تكن هوية ضحاياه، ومَنْ يذبحهم ويشرّدهم وينكّل بهم، ويسبيهم. لدى الإيرانيين، وبعد نحو 35 سنة على الثورة الخمينية، المرحلة الآن لاستكمال قطف ثمار «تصديرها»... صحيح أن احتواء القرار العراقي، ونفوذ طهران في بلاد الرافدين تلقّيا ضربة كبرى بعد فضيحة سقوط الموصل، وأن سورية الحليفة الطيّعة لم تعد الباحة الآمنة ولا نظامها قادراً على الدفاع عن نفسه، ولكن لمشروع طهران زوايا أخرى وخرائط لم تعد أسراراً. هي تثير الملل كلما ادَّعت دفاعاً عن شيعة العراق أو شيعة البحرين، وتحت مسمّيات مختلفة، لكنها دائماً تحت سقف التشيّع السياسي. أنكرت مرات تدخّلها في شؤون الدول العربية، في حين ما زالت تفكك النسيج الاجتماعي المذهبي في المنطقة، وما على الجميع سوى أن يصدّق ان «الجمهورية الإسلامية في إيران» لا تسعى إلا لإخماد الفتنة. تحذّرنا منها وتحرّك أصابعها، فيصحو العرب على سقوط إحدى مدنهم، تكبر الهزائم والفضائح، لكن إيران مع العرب بنيّاتها «الطيّبة». تدّعي ايضاً أن سياستها ليست طائفية ولا مذهبية، فلا حليفها في سورية يميّز ببراميله المتفجّرة بين مسلم ومسيحي، ولا دعمها ل «حماس» السنّية بُني على حسابات غير مصير الفلسطينيين، والدليل تشجيع على الحرب وتمويل، انتهيا بتدمير غزة مرات، وبآلاف الشهداء. بعد سقوط الموصل بيد «داعش»، وتخلي الجيش العراقي عنها بلا مقاومة، سقطت صنعاء بلا مقاومة في أيدي الحوثيين، ثم مدينة الحديدة على البحر الأحمر... بات اليمن على حافة الانهيار، والتشرذم ثلاث دويلات. هل من الأسرار علاقة الحوثيين بطهران، او احتضانها قضية علي سالم البيض، أحد رموز «الحراك الجنوبي» الساعي إلى سلخ جنوب اليمن في دولة «ديموقراطية»؟ تخلى الجيش العراقي عن الموصل في ليلة ظلماء، ترك قادة في الجيش اليمني صنعاء لمصيرها، بل منعوا قتال الحوثيين، كررت الجماعة التجربة في الحُديدة وفازت بموطئ على البحر الأحمر... مأرب على اللائحة؟ النفط خزانة تمويل. لكن الفارق كبير بين جماعة الحوثي وجماعة أبو بكر البغدادي، الأول يريد «تطهيراً» من الفساد، والثاني يطمع بدولة «خلافة» يطهّرها من «الكفار». وإن كان من ناقة لإيران في ما يفعله عبدالملك الحوثي- وهذا أكيد- فالمفارقة هي تزامُن الزحف، تهاوي المدن والحواضر والمرافئ... لا قوة تصدّ الحوثي، ولا التحالف يمنع تقدم «داعش». يَمَنٌ مفكّك ومشرذم، هل يكون الرد الإيراني على «الصفعة» العراقية التي مكّنت واشنطن من حرمان طهران من نوري المالكي، ومن احتكار تحريك المؤسسات في بغداد؟ ما بعد «داعش» ليس كما قبله، لذلك تتكيف إيران مع قواعد لعبة جديدة، على هوامش المفاوضات النووية. تعرض بلا لبس مقايضة بين تسهيل الغرب اتفاقاً على تخصيب اليورانيوم، في مقابل تسهيل مهمة التحالف في مواجهة «داعش». ولكن، ألا يثير الشق الثاني من مشروع الصفقة مزيداً من الارتياب بالدوافع، فيما محاربة التنظيم في العراق، يُفترض نظرياً أن تخدم أمن إيران في المواجهة مع التكفيريين؟ ذروة الأزمة مع إيران قد يكون أبرز تجلياتها طغيان التأزم السعودي- الإيراني، نتيجة خلافات تراكمت حول الكوارث التي تشهدها المنطقة، وفي كل منها لطهران أصابع، لونها لا يتطابق مع «النيّات الطيبة» ولا الصفحة الجديدة التي ادّعت انها تريدها، خصوصاً مع الرياض. وكلما أثارت المملكة مطلب سحب العناصر الإيرانية من سورية، كبادرة حسن نيّة، ولتسهيل مخرج للسوريين من نكباتهم، ردت إيران باتهامات للمملكة متناسية ان القوة السعودية في البحرين موجودة هناك بطلب من المنامة، وفي إطار قوة «درع الجزيرة». بعد يومين من «النيّات الطيبة» التي حملها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى نظيره السعودي الأمير سعود الفيصل، خلال لقائهما في نيويورك، سقطت صنعاء في قبضة الحوثيين. وبين جولة وأخرى في ماراثون المفاوضات النووية، تفتح طهران أبواباً جديدة لمساومة الغرب على عواصم أخرى عربية.