سألت الأبيض ، كيف له أن يغير حداده حال كف السماء عن الانهمار؟ من أين له تلك الجرأة الغريبة على خذلانها ، بمجرد ذرفها آخر دمعة مودعة خريفه ؟ كيف يتغير إحساسه بها لمجرد بزوغ شعاع دفئ شتائي عابر؟ يرسم على سمائها وفوق أرضها ابتسامته المزيفة بألوان قوس قزح السرابية .هي تمطر أنى شعرت بغصة في جوف سعادتها تنساب سيلان خير جارف ،لا تتصنع صمتها ، لعلها تمطر خضرة في مكان ما من هذا العالم… هي الحاضرة الغائبة في قلوب طالبي سخائها ، لعلها غضبى ، عطشى ، لحرارة تبخر مياه تجاويفها العنيدة ، لتكاثفها سحبا رمادية ، بين لونين تتأرجح ، ترفض أن تكون بوجهين ، تتحين فرصة الاشتياق لتهطل… لم تكن يوما هينة ، لطالما ظلت سهلا ممتنعا ، جارفا أنى شاء لها القدر، ممتنعة مرات عدة ، تلهب قلوب من يسائل عن سبب غيابها الطويل الحميمي. لشتائها الحار نكهة أخرى ، لهيب بطعم موت ، صمت الهدوء المخيف الذي يتماهى ليباغت كف القدر. معطف الغربة معلق على مشجب الانتظار، قبعة بعبق الطين المبلل تجتر دفئها ، قفازات مابعد البرد تلامس أنامل الربيع الحريرية ، و شال الأمنيات المتقادمة معطر بنسيم البحر الفضي ، يسافر في الخيال ملاحقا جناحي بسمة بعمر فراشة. ألوان الحياة باهتة بغيابها ، شاحب وجه القمر مختف بين غيوم مابعد منتصف الليل ، لعله ينظم قصيدة الصبح الوضاء بأديم غمرة. ولأنه لن يلاقيها يوما ، سيكتفي بتخيل معالمها ، بخطها و محوها ، بالعيش على أمل لقاء لن يتم مطلقا حتى في قصص المليون ليلة و ليلة… في عمق سهره الخرافي ، ظل القمر يحكي لليل قصة عشقه المستحيلة لنور الثلج، تلك التي توحد القلوب المغتربة على إيقاع نقرة رومنسية ، على خلفية نافذة أو حين تلامس وجنتي صباح بكر، وقت الفجر بقليل، إبان نفضه سواد نبض عناده. نور الصبح حتما آت ، مجبر هو على الانصياع لثنائية الحياة و الموت، يحيى بموت سكونه ، يجدد خلايا وفائه بموته البطيء المتقد شراسة ، ينهش ذاته تحملا لبعده القريب من نده ، في أقصى قربه من سواده موته، وفي عمق خجله سر انبعاثه. قمرنا يجالس الآن نيزكا مصطدما بطرف رأسه ، غائب عن وعي الصبح ، يغط في غيبوبة الصدمة.لعله فقد ذاكرة عشقه ، تلزمه إذن مفكرة ذكريات شاغرة أو منبه عازف للحن ديميس روسوس، أو أساور بنفسج و ربطة خصلات حريرية بعمق رذاذ عطر متمرد… لوح لون الفرح راسما لوحة البياض الأرجواني الأسود ، بين صبح شفقي و رمادي مسود ، لعلها مسودة لوحة انطباعية بريشة الطبيعة ، مميزة بمزاجية مشاعر إنسانية متقلبة ، صافية كبياض الثلج،متقدة كلافا شموع الذات المحترقة حياة بائسة ، أو كبورتريه مهرج متمرس ، فقد وجه الحياة بين قصاصات ملايين الأقنعة المرقعة المطبوعة على هيكل جمجمة موته. الحياة آتية بنقرات خفيفة متواصلة… كلحن نفس دافئ مشتاق لهمس الأمنيات. على حين غرة …تحن و تغمر… أجل… إنها تمطر !