نحن متخلفون جدا .. يجب أن ندرك الأمر أولا، ونستوعبه جيدا لنتمكن من التعامل معه .. التخلف ليس سُبَّة، ولكن الحقيقة المُرَّة التي يجب أن نعترف بها اليوم، وبصوت عالٍ، هي أننا تأخرنا عن الرَّكْبِ كثيرا … وعندما تكون أسباب تخلفك ظاهرة بالعين المجردة، فلا يجب أن تستغرب مما يحيط بك .. وعندما تكون معظم سياساتك تغذي تخلفك وتستثمر فيه، فلا يجب أن تستنكر النتائج في الأخير … المشكل في بلدنا بِنْيَوي، مُرَكَّب، وجد معقد .. ولا يمكن حله بتغيير المسؤولين فقط، لأن وصولهم إلى تلك المناصب كان في الأصل نتيجة طبيعية لمسلسل طويل من العبث الذي بدأ قبل عقود … حروف الهجاء تبدأ من الألف وليس من الخاء، وكذلك التغيير والإصلاح يبدآن من أساس البناية وليس من واجهتها .. وأساسُنا للأسف نخره الدود واهْتَرَأَ حتى امتلأ قيحا، ولا يُخاطُ جرح على قيح .. يجب أن يُنظَّف أولا، ويُعالَج بالدواء المناسب ثانيا، قبل أن يخاط في الأخير .. لكن في الكثير من الأوقات تُضطَّر إلى كيِّهِ، وأحيانا إلى بتر عضو ليعيش باقي الجسد .. ونحن أضعنا الكثير من الوقت ونحن نعالج السرطان بمسكنات الألم، وتركناه ينخر جسد الوطن حتى أصبح ظاهرا للعيان لا يمكن إخفاؤه أكثر … سرطان تخَلُّفِنا في حالة متقدمة اليوم، يمكن أن ينفع معه العلاج بالأشعة وبالكيماوي، ويمكن أن نحتاج معه إلى إجراء عمليات جراحية لاستئصال بعض الأعضاء .. وهذا قرار صعب يستوجب الجرأة والحزم، ويستلزم القيام بفحص قبْلي شامل لكامل الجسد بجهاز ال PetScann للتأكد من مواضع السرطان بدقة عالية لا تترك مجالا للشك، ويستلزم قبل كل شيء أن نضع الجسد بين يدي جراح كبير متمرِّس لا ترتعد يداه … لكن الحلقة الأهم في السِلسلة هي أن ندرك أوّلا بأن السرطان يقتُل، وأنَّه ليس أمامنا أي مجال للانتظار أو للتردد .. فإما أن نقتله أو أن يقتلنا، وليس هناك أي خيار ثالث ! في مثل هذه الظروف يصبح من الصعب جدا أن تتحمل أي مسؤولية عمومية، وأن تصنف الملفات الحارقة المطروحة، التي تنتظر حلولا مستعجلة، إلى أولويات وثانويات .. وخير منطق يمكن أن نواجه به الوضع الحالي هو “خير وسيلة للدفاع هي الهجوم”، مع العِلم بأن حلول المشاكل المطروحة لا يمكن أبدا أن تكون من داخل الصندوق بل من خارجه .. وهذا يعني أن الضرورة تحتم سيادة فِكر جديد، وإلا فلن يتغير أي شيء مهما نسخِّر من الموارد المالية والبشرية للإصلاح وللتغيير … الفِكرة هي الأساس، والفِكرة يجب أن تحمل الجرأة والعقلانية والذكاء في نفس الوقت .. جرأة في إيجاد واقتراح حلولا جذرية، وليس ترقيعية .. وعقلانية في اختيار الحل الذي يتماشى مع المُتوفِّر من الموارد .. ثم ذكاء في تعبئة الموارد واستعمالها لتنفيذ الفِكرة … لكن الخطأ الذي يجب أن نتجنبه، هو التفكير في حلول ثابتة في عالم يتحرك .. لذلك يجب أن تحمل الحلول التي سنطرحها وسننفذها اليوم أجوبة على أسئلة المستقبل .. وهنا تكمن صعوبة الوضع الحالي للبلد، لأن المشاكل سَتُحَلْ عندما يصل إلى مركز القرار من يحمل تصوُّراً جديداً جريئاً ذكياًّ مستقبلياً … صحيح أن قِلَّة قليلة هي من تتوفر فيها اليوم كل هذه الشروط، لكن ذلك لا يجب أن يشكِّل حاجزا .. فَالتاريخ لم تصنعهُ يوماً الأغلبية !