"فقد صار لزاما علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نعجل بمد جسور الترابط الدائم بين الأسواق الإفريقية، وتعد منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، آلية أساسية لتعزيز هذا النموذج التنموي الاقتصادي الجديد، القائم على الابتكار وتنويع الأنشطة الاقتصادية، وعلى التجارة التضامنية، وهو ما يستدعي توحيد الصف الإفريقي قصد بناء اقتصاد قاري مزدهر يقوم على التنمية الشاملة والمستدامة، وعلى تشجيع المبادرة الحرة وإنتاج الثروات". من الخطاب الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس إلى القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقي ب"كيغالي" بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس من الطبيعي أن تكون للمغرب مشاكله ومشاغله الداخلية، وخاصة في مجالات البناء الديمقراطي والتنموي، كما هو الشأن بالنسبة لأي بلد آخر يسعى ويعمل من أجل أخذ مكانته في قطار التقدم وتحقيق طموحات وتطلعات شعبه. ومن مميزات المغرب، بالإضافة إلى التحديات التي رفعها ويرفعها على المستوى الداخلي، أنه بلد ما يزال يواجه ويتصدى لتحديات ومناورات خارجية… مناورات تحبكها وتروج لها جهات كان من المفروض فيها أن تعي حقائق ومعطيات العصر، وأن تجنح إلى ما تفرضه أواصر وقيم الانتماء الديني والقاري المشترك من تضامن وتكامل وحسن الجوار. والملفت للانتباه في ذلك ليس فقط هو أن تكون للمغرب القدرة على رفع كل هذه التحديات، التي يفرضها الموقف على الصعيدين الداخلي والخارجي معا، بل أيضا أن يتمكن، وبكيفية مسترسلة، من تحقيق تراكمات من النجاحات والانتصارات على الواجهة الداخلية كما على الجبهة الخارجية، وبشأن هذه الأخيرة، لا شك أن ما نقلته وسائل الإعلام الوطنية والدولية، خلال الأسبوع الماضي، فيه ما يكفي للدلالة على أن المغرب يواصل الخطوات والانتصارات على هذا الطريق بالرغم من كل الدسائس ومناورات التزييف والافتراء الآتية من خصوم قضيته الوطنية وحقوقه المشروعة، ومن ذلك: * أنه بعد كل الرهانات والادعاءات الواهية لخصوم الوحدة الترابية، بشأن قرار المحكمة الأوروبية حول اتفاقية الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي، الداعي إلى استثناء منتوجات الأقاليم الصحراوية من الاتفاقية، فإن المفوضية الأوروبية لم تتأخر في القول بأن اتفاقية الصيد يمكن أن تشمل الأقاليم الجنوبية، وأن الاتحاد الأوروبي يرغب في تطويرها من خلال إبرام اتفاقية وبرتوكول مستدامين في المجالين البيئي والاقتصادي، وأن الاتفاق ينسجم بشكل كامل مع القانون الدولي والأوروبي. * أنه بعد الاستفزازات التي تقوم بها الجماعة الانفصالية في منطقة "الكركرات" بادر مجلس الأمن الدولي إلى الإعلان عن موقفه الصريح والواضح الذي يفيد بأن المجلس يعبر عن قلقه من خرق قرار وقف إطلاق النار، ويضيف التصريح الصادر عن رئاسة مجلس الأمن بأن المجلس يرفض المساس بالوضع القائم في المنطقة، ويدعو إلى الالتزام بالقرار رقم 2351،على النحو الوارد في تقرير الأمين العام الأممي. * أن المغرب نجح في إحباط (الدعوات)، التي روجها خصوم القضية الوطنية، خلال القمة الإفريقية الأخيرة، والتي كانت ترمي إلى الحيلولة دون تنظيم تظاهرة منتدى (كرانس مونتانا) الدولية بمدينة الداخلة جوهرة الأقاليم الصحراوية، إذ أن دورة هذه السنة للمنتدى نظمت في موعدها، تحت شعار : "إفريقيا وتعزيز التعاون جنوب جنوب"، وبحضور أزيد من 1000 شخصية يمثلون أكثر من 100 دولة، من بينها 49 دولة إفريقية. * أن المغرب، في نفس الأسبوع، عزز حضوره وتواجده الواعد في فضاءات المؤسسات الإفريقية من خلال مشاركته المتميزة في القمة الإفريقية الاستثنائية بالعاصمة الرواندية (كيغالي)، حيث تم الإعلان عن إحداث منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، وحيث وقع المغرب على وثائق تأسيس والانضمام لهذا الإطار الاقتصادي والتجاري الإفريقي الجديد. وقد تجسد التميز المغربي بقمة الاتحاد الإفريقي الاستثنائية، من خلال مضامين الخطاب الذي وجهه جلالة الملك إلى هذه القمة، وهو الخطاب الذي تلاه رئيس الحكومة، حيث أعاد جلالته في هذا الخطاب التذكير بالرؤية الملكية لتنمية إفريقيا وخيار المغرب الإفريقي وإرادته القوية في دعم المسار التنموي للقارة والنهوض بأوضاعها. كما حرص جلالة الملك محمد السادس على التذكير بالمغزى العميق لعودة المغرب إلى مؤسسات الاتحاد الإفريقي، وكذا بزيارات جلالته لبلدان العمق الإفريقي، بقوله: "وقد وقفنا خلال هذه الزيارات على الحاجة الملحة إلى التكتل في إطار مجموعة إفريقية متماسكة وطموحة، وعلى هذا الأساس، فبقدر ما تمثل عودة المغرب إلى أسرته المؤسسية التجسيد الفعلي لهذه الإرادة الثابتة لتوحيد الجهود والطاقات، فإنها تعكس أيضا تشبثنا الراسخ بروح الاتحاد وبثوابت الوحدة الترابية لكل بلداننا والتضامن الإفريقي بينها". وبتركيز ودقة تحدثت الرسالة الملكية عن أهمية وضع الآليات المساعدة على التنمية الشاملة والمستدامة للقارة السمراء، مؤكدة على أنه قد "صار لزاما علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نعجل بمد جسور الترابط الدائم بين الأسواق الإفريقية، وتعد منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية، آلية أساسية لتعزيز هذا النموذج التنموي الاقتصادي الجديد، القائم على الابتكار وتنويع الأنشطة الاقتصادية، وعلى التجارة التضامنية، وهو ما يستدعي توحيد الصف الإفريقي قصد بناء اقتصاد قاري مزدهر يقوم على التنمية الشاملة والمستدامة، وعلى تشجيع المبادرة الحرة وإنتاج الثروات، ولعل الحرص على الاستجابة لهذه التطلعات هو ما يسر تتويج الجولات المتعددة للمفاوضات بميلاد هذا الإطار القانوني الأنسب المتمثل في منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية". وبهذا التوجه الاستراتيجي الذي رسمته وترسمه الخطب الملكية، يتضح، لكل الأوساط القارية والدولية، ما يمكن للمغرب أن يقدمه من عمل جدي لصالح القارة الإفريقية ولفائدة المجتمع الدولي ككل، ومن ثمة، وبهذا الحضور القوي المتميز يستطيع المغرب أن ينقل المعركة إلى ملعب الخصوم، وأن يدحض المناوشات والاستفزازات والافتراءات التي تنتجها الدوائر المحرضة على الأطروحة الانفصالية. وهذا ما حصل إزاء موقف محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري، إذ بالإضافة إلى رفضه من لدن المفوضية الأوروبية، فقد تعالت أصوات أخرى من داخل البرلمان الأوروبي تستهجن (انحراف المحكمة الأوروبية)، بل وتثير الشكوك حول اختصاص وحياد هذه المحكمة في الملف المتعلق بالاتفاق الفلاحي (دجنبر 2016)، واتفاق الصيد البحري (فبراير 2018)، وبمقابل محاولات الجماعة الانفصالية إقحام الاتحاد الإفريقي في النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، فإن العرض الذي قدمه المبعوث الشخصي للأمين العام الأممي إلى مجلس الأمن، يؤكد على أن الأممالمتحدة هي الجهة المختصة بتتبع ومعالجة ملف هذا النزاع، وفي نفس اتجاه المفوضية الأوروبية، كان موقف الكونغرس الأمريكي واضحا في دعمه (ضمنيا) للموقف المغربي، وفي دعوته الإدارة الأمريكية إلى "دعم استثمارات القطاع الخاص بالصحراء المغربية". وبعد كل المناورات و(العراقيل)، التي اختلقتها الجهات المناوئة للحضور المغربي في بعض مؤسسات الاتحاد الإفريقي، وخاصة منها (سيدياو)، هاهو برلمان المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا يعلن في البلاغ المشترك الصادر عقب اجتماعه مع البرلمان المغربي عن دعمه لانضمام المغرب إلى هذه المجموعة، معتبرا أن الحضور المغربي سيشكل قيمة مضافة للمجموعة وسيتيح الاستفادة المتبادلة وتقاسم الفوائد بين بلدانها. إنها عناصر ومعطيات دالة على نجاعة الرؤية المغربية المتطورة لقضايا القارة الإفريقية، ولما يجري على الأرض في المنطقة، على أن ما لكل هذه المعطيات من تقييم إيجابي، لا يعني أن الأمور تسير بشكل ميكانيكي في المجال السياسي، حيث تتعدد المقاربات وتختلف الخلفيات والمنطلقات. وعليه، فإن المغرب مطالب بأن يواصل يقظته، والدفاع عن موقفه الحازم والحاسم، بشأن وحدته الترابية، وهو الموقف الذي عبر عنه جلالة الملك في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء، وذلك مع مواصلة اعتماد وتفعيل استراتيجيته القائمة على أن: * اهتمام المغرب بقضاياه الداخلية ومشاغله التنموية لا يجعل منه دولة منغلقة، ولا يمنعه من الاهتمام بالشأن الدولي والقاري والجهوي. * المغرب باختياره السياسي الواضح يضطلع بدور فاعل في قضايا التعاون الدولي والدفاع عن حقوق الشعوب في الأمن والاستقرار والحياة الكريمة. * المغرب صادق في خياره الإفريقي ويعمل، وبالملموس، على بناء إفريقيا الجديدة المعتمدة على طاقاتها والقادرة على إسعاد شعوبها. * المغرب يقدم، بكل ذلك، نموذجا جديدا للتعاون الدولي، ولمعالجة التوترات والأزمات، ولإرساء قواعد التعايش والتسامح بين ساكنة المعمور. وبهذا الاختيار وهذا السلوك الحضاري المتميز يعطي المغرب الدليل الملموس على استحقاقه لما يحظى به من احترام وتقدير المجتمع الدولي، وفي كل المحافل الأممية والقارية والإقليمية. وكما هو واضح من الرؤية الملكية لإشكالات وملفات القضايا الدولية والقارية، فإن هذا التوجه بعيد كل البعد عن المنطلقات والخلفيات التكتيكية، لأنه اختيار مبدئي قار تم اعتماده عن وعي وقناعة راسخة.. وهي القناعة التي تجعل هذا البلد يقوي عمله المتواصل من أجل توطيد مكاسبه الديمقراطية والتنموية، وأن ينخرط، في نفس الآن وبفعالية، في التصدي للمعضلات التي تواجه الإنسانية عبر المعمور، وأن يخصص كل مجهوداته من أجل النهوض بقارته الإفريقية عبر الشراكات الإيجابية والتعاون "جنوب جنوب"، مع ما يوازي ذلك من مبادرات ومساهمة في مجهود استتباب السلم وحماية أمن الشعوب ووحدة وسيادة بلدانها.