لم يقدر أي حزب أو تجمع سياسي فرنسي أن يحسم الانتخابات التشريعية في دورتها الثانية التي جرت أطوارها يوم الأحد الفارط لصالحه، في ظل انقسام وتقاطب حادين في المشهد السياسي الانتخابي الفرنسي، فلا التجمع اليميني، ولا الجبهة اليسارية، ولا نهضة الرئيس استطاعت أن تنال أغلبية مريحة تسمح بتشكيل حكومة منسجمة، ما لم تلجأ هذه الأحزاب والتكتلات إلى سيناريوهات إما للتوافق أو الائتلاف أو التعايش أو تشكيل حكومة وحدة وطنية، في ظل اختلاف بل تناقض بين البرامج والمشاريع والرؤى الإصلاحية التي يتقدم بها كل حزب أو تكتل سياسي، على ما بين مكونات كل تجمع أو تكتل من تطاحنات وتناقضات داخلية وبينية. ومع كل ذلك، فإن التقاليد الديمقراطية الفرنسية ستجد في نتائج الانتخابات فرصة ثمينة لمراجعة النموذج الانتخابي للجمهورية الفرنسية، ليتوافق مع المستجدات السوسيوسياسية والاقتصادية لفرنساالجديدة ولإفرازات نتائج الانتخابات الأخيرة التي طرحت بحدة سؤال نهاية الجمهورية الفرنسية الخامسة. وإذا كانت هذه المعركة الانتخابية المشتد وطيسها شأنا داخليا فرنسيا، نأى المغرب بنفسه عن أي تدخل فيها أو تعليق عليها من قريب أو بعيد، محترما بذلك التزاماته الدولية باحترام اختيارات الشعوب والدول، خصوصا أن له في كل الأطياف السياسية الفرنسية أصدقاء يحترمون بلادنا ويسعون حال توليهم للمسؤوليات السياسية والديبلوماسية ببلدهم إلى توثيق عرى الصداقة والتعاون والشراكة بين البلدين، فإن ما يهم المغرب من مستجدات الانتخابات الفرنسية هو ضمان استمرار العلاقات الثنائية العريقة مع هذا البلد، والاستمرار في خط ترميمها وإصلاحها على أسس جديدة كانت أغلبية الطبقة السياسية الفرنسية قد تداولتها وأقرتها واعترفت بخطأ التهور في استفزاز المغرب والتورط في معاداة مصالحه، وعلى رأس هذه الطبقة السياسية أولئك المسؤولون أنفسهم عن تصعيد التوتر وإذكاء العدوان والتمادي في الإساءة خلال السنوات الأخيرة التي عرفت فيها العلاقات المغربية الفرنسية هزات شديدة تسببت في تجميد العديد من اللقاءات والمشاريع، وفرضت على الطرف المغربي أن يتصدى بقوة لمؤامرة كبرى متكاملة الأركان قادتها لوبيات فرنسية مدفوعة داخل البرلمان الأوروبي وفي المحافل الدولية وعبر حملات إعلامية مغرضة ومكثفة، استعملت فيها كل وسائل التزوير والدس والكذب واختلاق أحداث وتهم في ملفات ما يعرف بالتجسس عبر "بيغاسوس" وفي ما سمي ب"مغرب قطر غيت"، وفي ملفات حقوقية أخرى مفبركة هدفها الضغط على المغرب وابتزازه، وفي ملف النزاع حول الصحراء المغربية الذي تستثمر فيه فرنسا غموض مواقفها من أجل مزيد من الابتزاز. اليوم تعرف فرنسا تحولا كبيرا في اتجاه إصلاح أخطائها الديبلوماسية خصوصا مع المغرب، وتعرف قطعا أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وأن ثمة تطورات في المنطقة المغاربية والمتوسطية والإفريقية لن يكون فيها لفرنسا موقع قدم ما لم تفعل مطلب الوضوح مع المغرب في مسألة وحدته الترابية، وأنه لا مجال لمساومة المغرب على مقدساته وحرياته ووحدته الترابية، وأن الخاسر الأكبر في لعبة المساومة والابتزاز والاستفزاز هو للبادئ الأظلم، وأنه لا مناص من الاستمرار في المراجعات لإصلاح السياسة الخارجية الفرنسية مع المغرب أولا، حيث سيكون ملف العلاقات مع المغرب على رأس الملفات التي ستوضع على طاولة الحكومة الفرنسية المقبلة، بالنظر إلى راهنية هذا الملف، وإلى ما يتعلق به من مصالح وأولويات في الاستثمار والشراكات، وبالنظر أيضا إلى كثافة الاتصالات والزيارات الفرنسية على أعلى مستوى إلى المغرب قبيل حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة وسابقة لأوانها. ولا يسع أي حكومة فرنسية قادمة كيفما كان توجهها الإيديولوجي أو السياسي، إلا أن تواصل مسار ترميم العلاقات مع المغرب، وتسريع وتيرة إيضاح الموقف الرسمي للدولة الفرنسية من الصحراء المغربية ومن الوحدة الترابية للمغرب، بعد تأكيد المغرب أن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات". كما ورد في الخطاب الملكي السامي والحاسم بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب قبل عامين. لا ينتظر المغرب من فرنسا أي شيء آخر غير تفعيل هذا المعيار قبل الإقدام على أية خطوة لتطوير العلاقات، ليس ابتزازا منه لفرنسا أو ضغطا عليها، بل للقطع أصلا مع الابتزاز بملف الصحراء الذي هدد أكثر من مرة العلاقات الفرنسية المغربية بالتشنج والتوتر والجمود. فأي تقدم فرنسي في ملف الصحراء لصالح الدعم الفعلي للحل السياسي التفاوضي والنهائي للنزاع المفتعل، والوقوف بجانب الشريك المغربي الاستراتيجي والموثوق في تثبيت الأمن والاستقرار في المنطقة وإبداء النوايا الصادقة والحسنة في الاستثمار في العلاقة السوية والندية والواضحة مع المغرب على أساس الربح المشترك والمتبادل، من شأنه أن يدفع عن فرنسا ما يتهددها من فقدان المصداقية والثقة، ليس مع المغرب فحسب، بل مع شركائها الأفارقة الذين سممت نزعات الاستعمار ولوبيات الهيمنة والترهيب والاستغلال البشع علاقاتهم الطبيعية والعادية مع الشعب الفرنسي والدولة الفرنسية. وفي انتظار سياسة خارجية جديدة لفرنسا بعد تنصيب الحكومة المقبلة، تستثمر في صدق الصداقات ونجاعة الشراكات الحقيقية، فإن المغرب باق على مواقفه الشرعية والعادلة وقيمه المتقاسمة مع الدول المحبة للسلام والعدل والخير، يرتقب أن تلتحق فرنسا بركب شركائه الدوليين الموثوقين، وأن تكون في الصفوف الأولى من المستفيدين من الجسر المغربي نحو الاستثمار في السلام والاستقرار والربح المشترك، وأن تكسر قياداتها الجديدة الحاجز النفسي الاستعلائي الذي حال دون التبديد النهائي للغيوم الملبدة في سماء العلاقات المغربية الفرنسية، وأن يكون عنوان المرحلة المقبلة وشعارها في سياسة وتدبير هذه العلاقات هو الوضوح ولا أقل من الوضوح.