لم يكسب المغرب من مسيرته الخضراء المظفرة، تحرير أرض عزيزة وغالية، فحسب، بل روحا صبغت كل مبادراته لبناء مغرب جديد وممكن تعاد فيه صياغة الأسئلة الكبرى للتعبئة والتنمية والديمقراطية والحداثة والحقوق وتحرير الإنسان من ربقة الجهل والتهميش والإقصاء، فقبل أن تكون المسيرة الخضراء حدثا سياسيا في تاريخ حركة تحرير الأرض في التاريخ المعاصر، وتدبيرا تنظيميا ولوجستيكيا في الكفاح الوطني لمواجهة قوى الاستعمار والاحتلال، كانت فكرةً وفلسفةَ سلام وتفاوض لتجسيد إرادة المجتمع الدولي الجديد، ومناخ الشرعية الدولية المتجهان لإنهاء مخلفات الاستعمار والحروب القديمة، والنزاعات الترابية الموروثة عنهما، بالثقة في قوة السلام وفي حركات التحرير السلمية الضاغطة والصاعدة من أجل التغيير والتحرير ودمقرطة فعلهما وأنسنته. لقد استعادت المسيرة الخضراء المظفرة، بشعبيتها وبطابعها السلمي والإنساني ليس الأرض فحسب، بل الثقة في قوة السلم والسلام وفي السلوكات المدنية ما بعد الحربين العالميتين، وقدرتهما على الإقناع بشرعية قضايا التحرير وانتزاع الحقوق ودحر قوى الهيمنة والشر والكراهية والطغيان والحرب الكامنة في النفوس وفي سياسات الأمم وأخلاقها عند تدبير الاختلاف والخلاف والتدافع بين البشر والقوميات والأعراق والأديان والدول. تجسدت هذه النزعة الإنسانية السلمية الرائعة، أيما تجسيد في وصايا قائد هذه المسيرة الخضراء، لحشود المتطوعين والمتطوعات من أبناء الشعب، جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني عند إعطائه انطلاقة المسيرة في خطاب الخامس من نونبر عام 1975، تلك الوصايا التي تذكر العالم بوصايا الأنبياء وحكم الحكماء العظام، وخلاصات الحضارة والتمدن والمدنية وفلسفة العيش المشترك على هذه الأرض، وحري بها أن تكتب بماء الذهب في سجلات الأممالمتحدة ومنظمات السلام العالمية، تقول الوصايا :” “قررنا أن نسير بمسيرة سلمية خضراء مدعمين بحقوقنا محاطين بأشقائنا ورفاقنا معتمدين قبل كل شيء على إرادتنا وعلى إيماننا …إذا ما لقيت إسبانيا عسكريا أو مدنيا، فصافحه وعانقه، واقتسم معه مأكلك ومشربك، وأدخله مخيمك، فليس بيننا وبين الإسبان غل ولا حقد…لا نريد أبدا أن نطغى، ولا أن نقتل، ولا أن نسفك الدماء، بل نريد أن نسير على هدى وبركة من الله في مسيرة سلمية… فعانق إخوانك وأصدقاءك الإسبانيين عسكريين كانوا أم مدنيين، وإن أطلقوا عليك نارا فتسلح بإيمانك، وتسلح بقوتك، وزد في مسيرتك، فلن ترى في آخرها إلا ما يرضيك ويرضي راحتك وراحة ضميرك. وفيما إذا اعتدى عليك المعتدون من غير الإسبان، شعبي العزيز في مسيرتك، فاعلم أن جيشك الباسل هو موجود، مستعد لحمايتك ووقايتك ضد كل من أراد بك السوء”. بهذه الكلمات القليلة والعميقة، والوصايا الملهمة لقائد مجدد وموحد وبانٍ في أزمنة الحرب والعنف، حررت فلسفة المسيرة الخضراء النفوس والضمائر من الأحقاد والضغائن ونزعات الانتقام، وانعطفت بتاريخ المقاومة نحو أفق إنساني مستقبلي تكون الكلمة الفصل فيه لسلاح الحكمة ولقوة الحجة والحق على طاولة التفاوض والمفاوضة. وهو ما حدث بالفعل في كل المحطات الدفاعية للمغرب عن شرعية قضية وحدته الترابية، وعن شرعية وعدالة القضايا العربية والإسلامية والإفريقية، ذات الصلة بتصفية ملفات الاحتلال والاستعمار، وعن السلام في ربوع العالم خصوصا في المناطق التي تشهد بؤرا للتوتر والاقتتال وحروب الدمار. إن فلسفة المسيرة الخضراء المباركة والمظفرة التي كانت لها الكلمة الأخيرة في تحرير الصحراء المغربية واسترجاع أقاليمها إلى أرض الوطن، وكان لها الفضل في جمع شمل المغاربة من طنجة إلى الكويرة، وصلة شمال المملكة برحمها الجنوبي، هي الروح الملهمة لكل المبادرات المغربية من أجل الحفاظ على مكتسباتها وتوسيعها في مسيرات أخرى وحدوية وتنموية وديمقراطية وحقوقية لا تقل عن المسيرة الخضراء شأنا ومكانة، يقودها جلالة الملك محمد السادس ويرعاها ويعيد تدقيق مساراتها وتوجيه زخمها وإشعاعها، وعلى رأسها مبادرة الحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية، كأرقى ما يمكن أن يصل إليه التفكير الإنساني في إطار لحلٍّ سياسي سلمي للنزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية، وكالجهوية الموسعة والمتقدمة كإطار لحل معضلات التفاوتات الجهوية والترابية والإدارية في تدبير التنمية، والاستثمار الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية وللخصوصيات الجهوية والمحلية في تحقيق نهضة متكاملة ومتوازنة بربوع التراب الوطني. تعتبر دروس المسيرة الخضراء السلمية، دروسا ملهمة لسياسات المغرب الداخلية والخارجية، سواء في التربية على أخلاق البذل والعطاء والتعبئة والانضباط، أو في الرد على خصوم وحدته الترابية، أو في كسر الجمود في مسارات الحل التفاوضي لإنهاء النزاع المفتعل، بقوة اقتراحية وإقناعية، وسقف عال من القدرة على إدارة النزاع بشكل سلمي هادئ يشهد العالم أجمع فيه للمغرب بطول الباع والمراس، فيما خصومه غارقون في الفوضى والتشنج والبؤس الفكري والسياسي، ومنطق التلويح بالحرب الطاحنة والدمار والدماء. رحم الله مبدع المسيرة الخضراء الملك الحسن الثاني، وأعان خلَفه جلالة الملك محمد السادس على مواصلة الوفاء بقَسَمِها، وعلى قيادة المرحلة الثانية من هذه المسيرة المباركة إلى العالم وإلى أروقة المنتظمات الأممية التي تشهد آخر سقوط للأطماع العدوانية على بلادنا، فوق طاولة مفاوضات بحث الحل السياسي السلمي، بعد أن التحقت دول وشعوب بركب المؤيدين والداعمين لمسيرة مبادرة الحكم الذاتي لأقاليمنا الصحراوية، والمقرين بواقعيته ومشروعيته ومصداقيته، والمعترفين بأن المغرب قوة سلام في المنطقة المغاربية وفي القارة الإفريقية لا غنى عن دوره الحضاري الكبير والحاسم في تعزيز الأمن والاستقرار بربوع المعمور.