بسم الله الرحمن الرحيم خطبة منبرية في موضوع: «ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال» ليوم: 09 رجب 1446ه، الموافق ل: 10 يناير 2025م. الخطبة الأولى الحمد لله وليّ الصَّالحين، وناصر عباده المؤمنين، نحمده سبحانه وتعالى على جلائل نعمائه، ونشكره على عظيم آلائه وجزيل عطائه، ونشهد أن لا إله إلا الله الذي لا ربَّ لنا سواه، ولا نعبد إلا إيَّاه، ونشهد أنَّ سيِّدنا محمداً عبده ورسوله، ناصر الحقِّ بالحقِّ والهادي إلى صراط الله المستقيم، صلَّى الله وسلَّم عليه صلاةً وسلاماً تامَّين دائمَين ما تعاقب الليل والنَّهار، وعلى آله الطَّيبين الأطهار، وأصحابه الغرِّ الميامين الأبرار، وعلى من تبعهم بإحسان في نصرة الحقِّ وأهله إلى يوم القرار. أمَّا بعد، فيا أيُّها الإخوة المؤمنون، إنَّ ممَّا يجب الالتزام به، باعتباره وصيةً جاء بها القرآن، وأكد عليها نبيُّنا العدنان، الوفاءَ بالعهد والاعترافَ بالجميل، الذي يُعدُّ من صميم أهداف «خطة تسديد التَّبليغ» التي يَقوم بها العلماء؛ أداءً للواجب، ونصرةً للأمَّة والوطن، انطلاقاً من قول الله تعالى: وَبِعَهْدِ اِ۬للَّهِ أَوْفُواْۖ ذَٰلِكُمْ وَصّ۪يٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَۖ [1]. في هذه الآية الكريمة يوصينا ربُّنا سبحانه بالوفاء بعهده، وإن تعدَّدت مجالاته، وتنوَّعت مظاهره، وهو وفاءٌ يكون مع الله ورسوله ومع إمام المسلمين وعامَّتهم. والوفاء بالعهد – عباد الله – خلقٌ كريمٌ يشعر الأفراد بمسؤوليتهم تجاه مجتمعهم؛ حفظاً له من نوازع الشَّر في الدَّاخل والخارج، وصوناً للبنيان المرصوص من التَّهالك والانهدام. وهذا ما تُجسده وترمز إليه «ذكرى تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال» التي نعيش ذكراها الغالية يوم 11 يناير من كلِّ سنة، مستلهمين منها دروساً وعبراً، نذكر منها ما يلي: * التَّذكير بدور إمارة المؤمنين في الحفاظ على وحدة الأمَّة، وقيادة الشَّعب المغربي في نضاله ضدَّ المستعمر، مستبصرين بتوجيهات السُّلطان المجاهد مولانا محمد الخامس، طيَّب الله ثراه، وملتفِّين حول العرش العلوي المجيد، وهو ما عجَّل بخروج المستعمر وجعل هدفَ النَّيل من وحدة المغاربة صَعبَ المنال. * التَّأمل في الألفة الوطنية، وما حققته من توافقٍ وتماسكٍ أفرز وثيقة المطالبة بالاستقلال التي عبَّر من خلالها المغاربة عن تمسكهم بثوابتهم الدِّينية والوطنية، متمثلين حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً»[2] ومؤكدين اجتماع كلمتهم، وأنهم أمَّةٌ لها تاريخها، ومقوماتها الدِّينية والحضارية والسِّيادية التي تتمتَّع بها عبر قرونٍ خلت. وأمَّةٌ هذا حالها لا يزيدها تنوعها الثقافي والمجالي إلاَّ تماسكاً وقوةً تحت مظلَّة دين الإسلام، ووطنٍ يتَّسع لكلِّ أبنائه. * الوقوف على حِنكة السُّلطان مولانا محمدٍ الخامس، طيَّب الله ثراه، وولي عهده آنئذٍ مولانا الحسن الثَّاني، أكرم الله مثواه، ومعهما أبناء الحركة الوطنية قاطبةً، وهي حنكةٌ تتجلَّى في اختيار الوقت المناسب لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، في عزِّ الحرب العالمية الثَّانية، حيث برز المغاربة كقوَّةٍ فاعلةٍ في تلك الآونة، إذ أسمعوا صوتهم بالمطالبة بحقِّهم المشروع في الاستقلال ككلِّ شعوب العالم، وتحرير الوطن وإعزاز المواطن واستقلال السِّيادة المغربية، وهو ما أربك خُطط المستعمر وعجَّل بِنَيْلِ الحرية والاستقلال. والله تعالى نسأل أن يجزي خير الجزاء الذين ضحَّوْا بالغالي والنَّفيس من أجل هذا الوطن الغالي، واسترخصوا في سبيله أرواحهم وأموالهم، وتحملوا عناء النَّفي والإبعاد وغيرهما من صنوف العقاب؛ نصرةً لدينهم، وإكراماً لوطنهم، وإعزازاً لأمَّتهم. كما نسأله سبحانه أن يجعلنا خير خلفٍ لخير سلفٍ تسَلَّم الرَّاية، وحافَظ على المكتسبات، وناضَل في جميع الميادين وفاءً بالعهد. نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن المبين، وبحديث سيِّد الأولين والآخرين، وأجارني وإيَّاكم من عذابه الأليم، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. الخطبة الثانية الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين، سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين. وبعد، فيا عباد الله، ليس الغرض من استحضار هذه المرحلة من تاريخ الوطن مجرد السَّرد التَّاريخي، وحكي قصص السَّابقين، بل المطلوب هو التَّذكير بتضحيات الآباء والأجداد من أجل المحافظة على مبادئ الحقِّ والعدل؛ صوناً للمكتسبات وتعزيزاً لها، فالموروث الدِّيني، والوطني، والثَّقافي، والحضاري وغيرها ملكٌ للأجيال المتعاقبة، فلا يجوز التَّفريط أو التَّقصير فيه بشكلٍ من الأشكال، بل يجب تثمينه وتنميته طوال حياة هذه الأمَّة. واستحضار هذه المرحلة من تاريخ أمَّتنا المجيدة، مناسبةٌ للاعتراف بالفضل لمن قدَّم التَّضحيات الجسام، وذلك بشُكر صنيعهم، وتثمين تضحياتهم، وحُسن الثَّناء، والدُّعاء والتَّرحم عليهم؛ لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به، فادعوا له حتى تروا أنَّكم قد كافأتموه»[3]. ومناسبةٌ للتَّذكير بوجوب التَّمسك بأسباب النَّجاح التي تمسَّك بها آباؤنا، بدءا من ثقتهم بالله وإيمانهم بوعده في نصرة المؤمنين، ومن الاجتماع الوطني على قضايا الأمَّة الدِّينية والوطنية، والتَّعلق بالعرش العلوي المجيد الموحِد للبلاد والجامع لأمر العباد، والسَّير في ركاب مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أيده الله ونصره، الذي أقام على هذه الأسس التي أرساها سلفه المنعَّمون نهضةً شاملةً في جميع الميادين: الدِّينية، والسِّياسية، والاجتماعية، والصِّناعية، والاقتصادية وغيرها، وأعطى أولويةً كبرى للإنسان والاستثمار فيه، باعتباره العنصر الأهم في التَّنمية، وأقام لذلك مشاريع عدَّة، في مختلف المجالات. أدام الله تعالى على مولانا أمير المؤمنين نعمه الظَّاهرة والباطنة، وحقَّق له كلَّ ما يصبو إليه من رقيٍّ وازدهارٍ، آمين. هذا وصلّوا وسلِّموا على المبعوث رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد وعلى آل سيِّدنا محمد، كما صلَّيت وسلَّمت على سيِّدنا إبراهيم وعلى آل سيِّدنا إبراهيم، وبارك على سيِّدنا محمد وعلى آل سيِّدنا محمد، كما باركت على سيِّدنا إبراهيم وعلى آل سيِّدنا إبراهيم في العالمين إنَّك حميد مجيد. وارض اللهم عن الخلفاء الرَّاشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي الصَّحابة أجمعين، خصوصاً الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. وانصر اللهم عبدك الخاضع لجلالك وسلطانك، مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمداً السَّادس نصراً عزيزاً تعزُّ به الدِّين، وتنصر به الإسلام والمسلمين، واحفظه اللهم بالسَّبع المثاني والقرآن العظيم، وبارك له في صحته وعافيته، واجعل الخير والتَّيسير حليف حركاته وسكناته، في حلِّه وترحاله، وأقرَّ عين جلالته بوليّ عهده المحبوب صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولانا الحسن، ووفِّقه اللهم لكل أمر حَسَن، وشدَّ أزر جلالته بشقيقه السَّعيد، صاحب السُّمو الملكي الأمير الجليل مولانا رشيد، وبباقي أفراد الأسرة الملكية الشَّريفة، إنَّك سميع مجيب. وارحم اللهم الملكين الجليلين المجاهدين محرري البلاد، وقائدي العباد في مسيرة التَّحرير والبناء، مولانا محمد الخامس، ومولانا الحسن الثَّاني، اللهم طيِّب ثراهما، وأكرم مثواهما، واجعلهما في مقعد صدق عندك، مع المنعم عليهم من النَّبيئين والصِّديقين والشُّهداء والصَّالحين. وارحم اللهم شهداءنا الأبرار الذين استرخصوا الغالي والنَّفيس من أجل هذا الوطن الغالي، ومن أجل هذا الشَّعب الوفي لدينه وثوابته ومقومات حضارته العريقة، اللهم اغفر لهم وارحمهم، واجعلنا على أثرهم في الإيمان الخالص والعمل الصالح، والمحافظة على المكتسبات بنصحٍ وإخلاص، اللهم أدم علينا نعمة الأمن والأمان والإيمان، وعلى جميع المسلمين. اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا غيثاً مريعاً سحاً غدقاً نافعاً شاملاً، يا ربَّ العالمين. اللهم انظر إلينا بعين الرَّحمة، ولا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بذنوب غيرنا، ربَّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيء لنا من أمرنا رشداً. سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين. [1] – سورة الأنعام، الآية: 153. [2] – صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب نصر المظلوم، رقم: 6026. رقم الحديث بمنصة محمد السادس للحديث الشريف: 4442 [3] – سنن أبي داود، كتاب الزكاة، باب عطية من سأل بالله، برقم: 5109. رقم الحديث بمنصة محمد السادس للحديث الشريف: 11479