تستضيف الجريدة، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال، الذي حكم عليه ب20 سنة، في إطار محاكمة الدارالبيضاء لسنة 1977، التي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين المنتمين إلى تنظيمات ماركسية لينينية، كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف، وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة "الديمقراطيات الشعبية"، التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام. في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، ابتداء من خطواته في منظمة "إلى الأمام"، مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن، وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن.
وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فهي في الآن نفسه تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن، ما زالت في حاجة إلى البحث والتمحيص.
كيف كانت ظروف الاعتقال في فاس، وهل استمر التعذيب؟ كان البوليس يتوفر على الضوء الأخضر من الدولة المغربية ليمارس التعذيب الجسدي بمختلف أشكاله بشاعة وقسوة وإلى أقصى حدوده، حتى ولو أدى ذلك إلى حدوث وفيات من أجل الحصول على المعلومات المطلوبة (المقرات، الأسماء، المواعيد ). كما كان يلجأ إلى التعذيب في حالة الامتناع عن توقيع المحاضر التي كان في غنى عن فبركتها وطبخها لأن الاعترافات والمحجوزات كانت كافية لتسويد صفحات وصفحات، وكان القضاة يعتمدون عليها وعلى أساسها يصدرون الأحكام. في تلك الحقبة الزمنية ،كانت الأجهزة الأمنية لم تكن تهتم بجانب التحري والمتابعة وتجميع الحجج إلا بشكل ثانوي أو جزئي وتكميلي. ففي مواجهتها لقوى اليسار الماركسي اللينيني أو المناضلين الاتحاديين المنتمين لما عرف تاريخيا بجناح الفقيه البصري الذين قادوا محاولات متعددة لإدخال السلاح وتنظيم حرب عصابات في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، كانت تلك الاجهزة تعتمد بالدرجة الأولى على سلاح الاختطاف وممارسة التعذيب في المقرات السرية كدرب مولاي الشريف ودار المقري وغيرهما للقضاء على التنظيمات والشبكات المناهضة للنظام. الاختطاف والتعذيب مقابل الحصول على المعلومات الكافية؟ نعم، توقف التعذيب الجسدي بعد الحصول على المعلومات المطلوبة، في حين استمرت المعاملة القاسية واللاإنسانية بحيث بقيت رفقة بعض الرفاق الذين شملتهم الدفعة الأولى من الاعتقالات "ننام" فوق الإسفلت البارد حوالي شهرين مصحوبا بضوء مصباح لا ينطفئ،، ويعطوننا خبزة يابسة في اليوم، ناهيك عن القيد الذي ظل يقيد حركة يدي طيلة مدة الاحتجاز بزنازنتي في فاس..وكثيرا ما كانت الفئران تستغل الفترة القصيرة التي يغلبني فيها النوم لتقضم عضة منها. ومع تزايد المعتقلين وقلة الزنازن، ارتأى البوليس وضعي مع أمغاغا في زنزانة واحدة، وأعطونا فراشا من البونج كان ضمن المحجوزات مما خفف من وطأة برودة الإسفلت ومن العزلة في آن. ثم ما لبثوا أن أضافوا علي زنزانتي رفاقا آخرين كلهم رحلوا إلى دار البقاء ويتعلق الأمر بكل من مصطفى الخطابي والغازي كرطاط وعبد العالي اليزمي فكنا نتحدث عن روايات قرأناها وأفلام شاهدناها وطرائف عشناها، كما كنا نروي النكت وننشد أغاني "ناس الغيوان" و"الشيخ إمام"، مما خلق جوا من المرح بدد الكثير من الكآبة التي كانت تخيم على نفسيتي. لكن مع حلول فصل الصيف أصبحت الحرارة لاتطاق وبالكاد نستطيع التنفس أو نمد أرجلنا، وانتشر القمل والأوساخ في أجسادنا. ومما كان يزيد الطين بلة، حينما يدخل أحدنا المرحاض لقضاء حاجته فتصدر أصوات وروائح تشمئز منها النفوس. وكان لما يفتح أحد الحراس باب الزنزانة ليمدنا بالطعام أو لاستدعاء أحدنا لجلسات التحقيق التفصيلي بغية إنجاز المحاضر، كان يتسرب هواء بارد منعش، فكنا نحاول إطالة الحديث ما أمكن ليبقى الباب مفتوحا ونغير جو الزنزانة الملوث. متى تم نقلك إلى السجن رفقة رفاقك؟ قبل الانتقال إلى السجن تم نقلنا بداية شهر غشت لاستكمال التحقيق وإنجاز المحاضر النهائية، باعتبار أن كل المعلومات متمركزة لدى زبانية درب مولاي الشريف بقيادة اليوسفي قدور. كانت رحلتنا من فاس إلى الدارالبيضاء منهكة، صعدنا "الفاركونيطات" فتلاشت رؤيتنا للطبيعة والطرقات بعدما غطت أعيننا العصابة السوداء، وعقدت أيدينا خلف ظهرنا الأصفاد الرمادية، لزمنا الصمت جميعا طوال الطريق، ارتخت كل أعضائي وتحللت بسبب الاكتظاظ والحرارة وتمايلي يمنة ويسرة، ، كنت مسافرا بلا عيون ولا قلب ولا حلم ولا أمل. كان السائق يقود بسرعة جنونية، وكنا نتمطط ونعلو وننخفض وترتطم رؤوسنا بجوانب السيارة أو برأس رفيق لصيق بنا. كان صمت القبور يخيم داخل المركبة ولا تقطعه أحيانا إلا أصوات توجعات أو بطون تفرغ ما في جوفها من قيء. بعد ولوجنا معتقل "درب مولاي الشريف" خلعنا ملابسنا وارتدينا قميصا وسروالا كاكيين. أخذ كل منا رقمه وكان رقمي 25، ثم صففنا "الحجاج" صفا واحدا وأداروا وجوهنا إلى الحائط ومررنا ببطء والكرباج يهوي على رؤوسنا وظهورنا وأيدينا، ننحني ويختبئ كل واحد منا في الآخر ويتمايل فيرتطم بالحائط ثم يعود لضربات ولسع السياط. انهال علينا "الحجاج" بالضرب وهم يصرخون في وجوهنا: "دين مكوم ، خليتو ديوركم وجايين تصدعونا". طقوس الاستقبال؟ نعم.. كانت تلك اللطمات من مظاهر "الاستقبال" وخلق جو من الإرهاب النفسي خصوصا أننا لم نكن قد تعودنا بعد على "العصابة" و"جغرافية الدرب". وضع كل أربعة أو خمسة في زنزانة لم أرها، لكن إحساسي بقتامتها يبدو واضحا مرأى العين. منعونا من الكلام منعا باتا، وبأنه يتعين علينا إذا احتجنا الذهاب إلى الحمام أن ننادي :"الحاج".وكان أحمد قد حكى لي أنه ضبط يتحدث مع رفيق ممدد بجنبه فسلخوا باطن قدميه بالكرباج. تمددت في الغرفة التي وضعوني فيها. لم تكن العصابة السوداء على عيني تسمح برؤية من معي وهل "الحجاج" قريبون منا أملا. لم أكن مستعدا لأية سلخة مجانية فغصت في الصمت، وسبحت في ذكرياتي وتأملاتي. قضيت أسبوعين، اختلط علي فيهما الليل والنهار. كانت معظم الوجبات من القطاني. وفي يوم الجمعة كانت تسعد بطني بوجبة سردين معلب وكأس شاي. كنت في البداية أمد أصابعي نحو الإناء فتلمس الأرض، لكنني بعد الأيام الأولى تعودت النظر من جوف توسط العين والأنف، كنت أرفع رأسي حتى يظهر الإناء، وبصعوبة شديدة كنت أستطيع تحديد نوع الأكل. يعني استمر التحقيق معكم في الدارالبيضاء؟ نعم، التحقيق سيبدأ مع المعتقلين الذين كانوا في فاس، وحين نودي علي برقمي وقفت متصلبا وقادني الحاج إلى مكتب اليوسفي قدور. سألني الأسئلة المعهودة : متى التحقت بالمنظمة ومن استقطبني، ثم طلب مني أن أفسر له سبب عدم ذكري خلال التحقيق في فاس أسماء أحمد الطريبق والمرابط وأمحجور. أجبته بأنهم تراجعوا مبكرا ولم تعد تربطهم أية علاقة بالتنظيم. بعد ذلك أظهر لي بعض المحجوزات واعترفت بملكيتي لها، لكني أنكرت أن الشوارب الاصطناعية تخصني، صفعني بشدة حتى دار وجهي وتمايلت جهة الحاج الذي أمسكني من كتفي وردني إلى انتصابي . وفي صباح يوم من تلك الأيام المظلمة، استدعينا للتوقيع على المحاضر بعدما ارتدينا ملابسنا المدنية .. حينئذ علمنا أننا سنغادر درب مولاي الشريف إلى السجن الذي كان يبدو لي قصرا فخما مقارنة مع منزل الأموات الأحياء الذي كنت فيه.