ما يعرقل السير ويشوش الذهن ويخلق حالة ارتباك ودوران في الفراغ هو الغموض… عندما لا ترى جيدا ما يوجد أمامك يصبح من العسير أن تسير، أن تحلق، أن تتقدم، أن تبادر، أن تغامر… الغموض هو تشويش على الرؤيا، تسويد المجال، تضبيبه بالمؤثرات الإضافية لجعله غير قابل للقراءة أو الفهم أو التفسير… قد يكون الغموض نابعا من صلب الموضوع كما في حالة النظريات الفيزيائية والرياضية وغيرها من العلوم التي ليست في متناول كل العقول، وهذا أمر مفهوم، بيداغوجيا، وسهل المعالجة بتبني مناهج مناسبة تساعد على تخطي الغموض لبلوغ الفهم والوضوح، لكن في مجال السياسة والاقتصاد والإعلام يصبح الغموض أمرا آخر، مشكلة خطيرة، حالة سلبية تؤثر على المجتمع برمته، يكون الغموض هنا تعبيرا عن أزمة بلوغ حقيقة ما يجري وما يقع… لهذا فالغموض مرده في الأصل، عندما يكون مفتعلا، إلى الخوف من الإشارة إلى الأسباب المباشرة المسؤولة عن الأوضاع المتردية، وبيان العناصر المساهمة في خلق المشكل وعرقلة انسياب البناء والتغيير… لهذا عندما يصبح الغموض سياسة تدار بها عملية التواصل بين الفرقاء سرعان ما تنهار كل القيم المؤسسة للفعل السياسي بمعناه الحداثي، أي اعتماد التصريح العمومي بالحقيقة، سواء كانت من إنتاج الواقع أو من فعل الأشخاص، بهدف خلق الصدمة وبالتالي ضمان انخراط الناس في النقاش والمساءلة والبحث عن البدائل… ليس هناك من منفعة في تبني الغموض كصورة للسياسة واستعارة ملتبسة للحقيقة السياسية، الضرر المباشر لهذا الخيار هو تدمير ثقة الناس في كل الخطابات المتعلقة بتشخيص الواقع وتحديد مشكلاته والإشارة إلى المسؤولين عن تدبيره، وحجم الخطأ الذي يتحملون مسؤوليته بشكل قصدي أو غير قصدي، ولعل هذا ما يفترض أن تقوم به المؤسسات المختصة في الإفتحاص والتدقيق وضبط ومراقبة السياسات العمومية في كل المجالات…ليس نظريا بل كتطبيق عضوي ومحايث لكل المنجزات التي تم تحقيقها أو تلك المعلقة أو المؤجلة أو المنسية… الغموض السياسي تلوين إيديولوجي مقيت، تزوير للوقع، إخفاء مقصود للحقيقة، التستر على المسؤولين، والعمل مقابل ذلك على تقديم خطابات إعلامية تنهك الناس باليومي والعابر والفرجوي حتى تستنزف إرادة الفهم لديهم وتجعلهم يكفون عن طلب الحقيقة وطرح الأسئلة المحرجة بشكل عمومي وصريح…