حب الاستطلاع هو من شيم الإنسان، بل إنه الميزة الأساسية لكل من أراد التبحر في العلم. ولولا هذا "الحب" لما أقدم الإنسان على التعرف إلى المعادن الموجودة في النيازك الساقطة من كبد القبة الزرقاء. ثم التفتيش عن ذات المعادن في الصخور المنتشرة على صفحة الكرة الأرضية، ثم التعمق في دراسة ميزات هذه المعادن وخصائصها، الأمر الذي جعله يدرك أن التكونات الصخرية تختلف باختلاف المعادن الداخلة في تكوينها. فقد أدرك، مثلا، أن الحديد يصدأ إذا ما تعرض للهواء مدة طويلة، فما كان منه إلا أن طفق يبحث عن الصخور التي تظهر في عروقها ألوان تحاكي لون الصدأ الذي يعتري الحديد. وفي أثناء هذا البحث عثر على "حجر الدم"، الذي كان فيما مضى من أهم الموارد الصخرية لاستخراج الحديد. والجدير بالذكر أن لهذا الحجر قدرة عجيبة على اجتذاب فتات المعادن، وهي قدرة تمكن الإنسان بها بالصدفة أن يعثر على القوة المغناطيسية، التي أصبحت فيما بعد القاعدة الأساسية لعلم الكهرباء وكل ما يتعلق بالطاقة الكهربائية. ولكن هذا التطور لم يحصل إلا بعد مضي عشرات القرون على إدراك الإنسان إمكانية استخلاصه المعادن من الصخور النارية التي تكونت من المواد المتوهجة التي قذفتها البراكين، ومن الصخور الرسوبية الناتجة عن تحجر الطمي والترسبات التي تجترفها الأنهار والمياه الجارية، والصخور المتحولة، أي تلك التي تنشأ عن التغيرات التي تطرأ على النوعين الأولين بسبب من الأسباب. وتبين بعد ذلك أنه لا ينبغي الاعتماد على ألوان الصخور وحدها في العثور على المعدن المطلوب، إذ أن الألوان كثيرا ما تكون مضللة. فلو أخذنا الصخرة البركانية السدرية، وحللنا محتوياتها لوجدناها تحتوي على الحديد بالإضافة إلى نسب كبيرة من الفحم، ولذلك يميل لونها إلى السواد أكثر منه إلى لون الصدأ. وعلى هذا الأساس بدأ الإنسان يدرك شيئا فشيئا أن الصخرة مهما تعالت النسبة التي تحويها من معدن معين، فإنها لا تحوي ذلك المعدن وحده. ومن ثم كان الحصول على معدن خالص، أيا كان من المستحيلات لأن الصخور النارية تحتوي في معظم الأحيان على مزيجات من معادن مختلفة كالحديد والرصاص أو الفضة والرصاص، أو الذهب والنحاس، أو القصدير والرصاص وهلم جرا. ومع هذا الإدراك أدرك أيضا أن في إمكانه مزج المعادن معا بواسطة الصهر بحيث ينتج منها معدنا صنعيا متجانسا جديدا، له ميزاته وصفاته الخاصة التي تختلف اختلافا بينا عن ميزات المعدنين أو المعادن الثلاثة الداخلة في تكوين ذلك المعدن الصنعي بموجب نسب معينة. ومن هنا نفهم أن نسب المزج بين المعادن المختلفة لإنتاج معدن متجانس متوالف قد تؤثر تأثيرا واضحا في ميزاته وصفاته. وهذا المزج هو ما يعرف باسم "السبك" أو الخلط. وهكذا ظهر فرع جديد في علم المعادن اختصاصه التبحر في عمليات المزج بينها ثم التعرف على طرق الاستفادة من هذه المعادن الصنعية أو "السبائك" في شتى الأغراض الصناعية والعلمية.
إذا أردنا أن نعرّف الصخرة تعريفا علميا، قلنا"إنها كتلة متماسكة من المعادن الخالصة أو غير الخالصة". ولكننا إذا أردنا تعريف المعدن تعريفا دقيقا تاما، وجدنا صعوبة قصوى في ذلك. ولعل أفضل تعريف توصل إليه العلماء حتى الآن قولهم:"إن المعدن هو مادة غير عضوية ذات تركيب معدني معين". ولكن هنالك بعض المعادن التي تظهر فيها فروق قد تكون كبيرة أو صغيرة في تركيبها غير العضوي، كما توجد معادن أخرى ذات منشأ عضوي، كالفحم الحجري مثلا. ومع ذلك فإن هذا التعريف العام للمعدن يكفي لأغراض دراستنا المبسطة للمعادن وكنهها. فإذا كان المعدن مادة غير عضوية ذات تركيب معدني معين، فيعني ذلك أنه جماد. ولكن هذا الجماد ذو نشاط يحيّر العقول. فبعض الجماد كالأورانيوم مثلا يشع إشعاعات عجيبة. وقد أدرك الإنسان هذا النشاط مع تقدم علم الفيزياء ولاسيما بعد تطوير المجهر تطويرا عظيما على إثر اختراع العدسة "الكروماتية" (اللالونية) التي تحول دون الزيغ الضوئي. وهكذا فإن المجهر الذي ساعد الإنسان على اكتشاف الجراثيم المضرة بالجسم، ثم على مكافحة الأمراض والأوبئة التي تتسبب بها كان من أهم الأسلحة التي اعتمدها العلم في دراسة أوصاف المعادن ومزاياها.
وقد تبين بمساعدة المجاهر أن المعدن يتألف من مجموعة متراصة متماسكة من الحبيبات التي لا تعد ولا تحصى، وأن هذه الحبيبات تختلف في طبيعتها وصفاتها عن حبيبات الرمل أو السكر أو الملح. أما وجه الاختلاف فيكمن في أن حبيبات الرمل والسكر والملح غير متماسكة معا. وفي الإمكان فصل بعضها عن بعض بمنتهى اليسر، في حين أن حبيبات المعدن متماسكة معا ولا يمكن الفصل بينها حتى لو عرّض المعدن للحرارة وانصهر. والمعروف أن المعدن يتحول إلى سائل أثناء انصهاره. وإذا اختلط معدنان معا، فإن خلطهما يؤدي إلى وجود نوعين مختلفين من الحبيبات في كتلة معدنية معينة يكون تمساك الحبيبات فيها ضعف ما هو عليه في كل المعدنين على حدة. ودلت الدراسات الفيزيائية كذلك على أنه كلما كانت الحبيبات صغيرة زاد المعدن تماسكا وصلابة. وقد اصطلح على تسمية المعدنين اللذين يمزجان معا بطريقة الصهر، باسم "المحلول الجامد". وهذه التسمية لا تعني أن المعدنين قد ذابا في سائل كما يذوب السكر في الماء. بل تعني أنهما امتزجا معا امتزاجا تاما، بحيث يستعصي التمييز بينهما. ولذلك فإن جميع السبائك أو الخلائط المعدنية ما هي إلا أنواع معينة من "المحاليل المعدنية الجامدة". في عام 1924م أجرى عالمان أمريكيان تخمينا لمقادير العناصر الكيميائية المتيسرة عبر سمك يبلغ 10 أميال في القشرة الأرضية التي تزن 17 مليون مليون مليون طن (أي رقم 17 يضاف إلى يمينه 18 صفرا). فتبين لهم أن هذه القشرة تتألف من الأكسجين بنسبة 49,3%، ومن السليكون بنسبة 25,8%، ومن الألومنيوم بنسبة 7,6%، ومن الحديد بنسبة 4,7%، ومن الكالسيوم بنسبة3,4%، ومن الصوديوم بنسبة2,7% ومن البوتاسيوم بنسبة2,4%،ومن المغنيسيوم بنسبة 1,9%. ومن الهيدروجين بنسبة 0,7%، ومن التيتانيوم بنسبة 0,4% ومن الكلور بنسبة 0,2% ومن الفوسفور بنسبة0,1%، وباقي العناصر 0,8%. =(100%) ولكن إذا حولنا هذه النسب المئوية الضئيلة إلى أطنان، عثرنا على حقائق مذهلة. لنأخذ مثلا على ذلك معدن التيتانيوم، وهو معدن لامع أبيض أشبه بالفولاذ إلا أنه يحترق في غاز النتروجين، ويتيسر هذا المعدن في الصخور الموجودة في القشرة الأرضية بنسبة 1 في 160. وإذا حولنا هذه النسبة إلى أطنان بلغ ما يتيسر من معدن التيتانيوم على وجه البسيطة أكثر من مئة ألف مليون مليون طن. ولكن إن نحن قارنا المقادير المتيسرة من هذا المعدن، الذي لا يكاد يسمع اسمه سوى العاملين في صناعة التعدين، بالنحاس أو الرصاص زادت دهشتنا، إذ أن النحاس نادر ندرة التيتانيوم ولا يؤلف سوى واحد في العشرة آلاف من القشرة الأرضية. بينما الرصاص هو أندر من النحاس إذ لا يؤلف أكثر من واحد في الخمسين ألفا من هذه القشرة. ولكن ماذا عن الذهب – ذلك الأصفر الرنان الذي يبهر الأبصار، وكثيرا ما يعمي القلوب؟ أجل إنه معدن ثمين لأنه نادر.
قدر العلماء أن المياه الموجودة في المحيطات بنحو 317 مليون ميل مكعب، فيها أعداد لا يستهان بها من الذهب. فلماذا لا تهرع شركات التعدين إذن إلى استخراج هذا الذهب من ماء البحر، مثلما تفعل شركات النفط في استخراج النفط والغاز الطبيعي من المياه الساحلية؟... الجواب على ذلك هو أنها لا تفعل ذلك لأن عملية تعدين الذهب من ماء البحر تكلف سبعة أضعاف سعر الذهب الحالي في الأسواق العالمية. وإذا أخذنا معدن الألومنيوم وجدنا الكميات المتيسرة منه تفوق الكميات المتيسرة من الحديد في القشرة الأرضية. ومع ذلك لم يقدم الإنسان على استغلاله لسد حاجاته إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وما مرد ذلك إلا إلى أن العلم لم يكن قد توصل بعد إلى إيجاد طريقة عملية لاستخلاصه من الطين الذي يحويه. وعليه فإن المعادن جميعها يجب أن يجتمع فيها بعض الصفات قبل أن تصبح ذات فائدة عملية. ويجب أن تكون متيسرة بشكل يسهل معه الحصول على خاماتها، ومن ثم يسهل صهرها وتحويلها إلى معادن خالصة. المعادن الخالصة من النادر جدا أن يعثر عليها مهما كان نوعها، اللهم إلا إذا استثنينا بعض الناس الذين قدر لهم أن يعثروا في أمريكا وأستراليا على حبات من الذهب كادت تكون خالصة. ولكن لم يحصل هذا إلا نادرا والشاذ لا يقاس عليه. وقد ذكرنا في مطلع هذا المقال ان المعادن تستخرج عموما من الصخور المعدنية، وقلنا ان هذه الصخور هي إما بركانية، وإما رسوبية، وإما متحولة.
ولما كانت الصخور كثيرة في جميع أقطار العالم إلا إذا كانت سهولا رسوبية أو صحاري رملية، فإن المنطق يفرض على أن تكون المعادن موزعة على جميع المناطق في العالم توزيعا عادلا. ولكن مثل الصخور كمثل سقوط الأمطار، تهطل في بعض الأقطار على مدار السنة تقريبا وتكاد تنعدم في أقطار أخرى. فالمعدن أيا كان نوعه لا يمكن استخراجه من صخرته أو تربته المعدنية إلا إذا احتوتا على نسب معقولة منه ذات فائدة تجارية. وهذه النسب تختلف باختلاف المعادن ومدى أهمية ورغبة الناس فيها وأسعارها في الأسواق. فإذا احتوت صخرة معدنية على 2% من النحاس أو القصدير، أو 3% من النيكل، أو 10% من الخارصين أو التوتياء اعتبرت هذه النسب معقولة. ولكن إذا احتوت صخرة أخرى على 20% من الحديد، فإن رجال التعدين يعتبرونها فقيرة وينبذونها ويفتشون على صخور أخرى تحتوي على نسب أعلى. غير أنهم إذا عثروا على صخرة لا تحتوي إلا على واحد في الأربعة ملايين من معدن الروديوم مضوا يرقصون فرحا !..
وأهم ما تدل عليه هذه الحقيقة هو أن الصخور المعدنية ذات الفوائد التجارية موزعة على وجه الأرض توزيعا غير عادل. وقد انحصر التعدين في البداية على الصخور الموجودة على سطح الأرض مباشرة أو العروق التي يسهل الوصول إليها عن طريق الحفر المعقول. ولكن عطاء هذه الصخور ما لبث أن اضمحل فاضطر الإنسان إلى البحث عن حاجاته من المعادن في باطن الأرض. وهكذا نشأت المناجم التي نعرفها اليوم والتي يتطلب إنشاؤها شق الأنفاق إما عموديا وإما أفقيا وإما في شكل متعرج أو مائل للتوصل إلى عروق الصخور ذات الفوائد التجارية.
وصناعة التعدين تفتقر بالإجمال إلى طاقات عظيمة إذ أن عمليات الصهر كثيرا ما تكون في غاية التعقيد، فإنتاج طن واحد من الألومنيوم مثلا يستهلك 24 ألف وحدة من وحدات الطاقة الكهربائية، هذا إذا فرضنا أن طين الألومنيوم يحتوي على 25% من هذا المعدن، ذلك أن الألومنيوم يمتزج في طينته امتزاجا كيميائيا مع معادن أخرى مثل السليكون والحديد والكلس والماغنسيوم، بالإضافة إلى مقدار كبير من الأوكسجين، ويتطلب فصل هذه العناصر بعضها عن بعض جهودا عظيمة.
*-*-*-*-*-* والله الموفق 2016-12-09 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI