كانت سوق عكاظ سوقا أولا، والأحدثون اليوم، لاسيما الشباب منهم، إذا ذكرت عكاظ ، ذكروا بها الشعر الذي انطلق فيها. وما كان الشعر إلا نشاطا واحدا من أنشطة عدة. كان من أول هذه الأنشطة العدة، التجارة، ومن أجل هذا سميت "عكاظ" سوقا. كانت سوقا يأتيها من رجال العرب، ومن نسائهم كل من أراد بيعا أو أراد شراء. جاءوا إليها من أرجاء الجزيرة العربية، ومن وراء تلك الأرجاء، بالشيء الكثير. من هجر والعراق جاءت الخمر، ومن اليمن جاءت البرود الموشاة وجاء الأدم، ومن الشام جاءت مواد الزينة والسلاح. ومن كل صوب جاءت الإبل وجاءت الأغنام وسائر الماشية. حتى الرقيق كان يساق إلى عكاظ، ويباع فيها بيع المتاع. وكان للعرب أسواق عدة، لها مواسم عدة. منها سوق عمان، وسوق عدن، وسوق صنعاء، وحضرموت. ولكن سوق عكاظ كانت أكبرها وأشملها، أو أبعدها صدى. وكانت عكاظ محجة اجتماعية وندوة سياسية، ففيها كانت تعرض الخصومات، وتعلن الحروب، وتنقل الأخبار. ومن طلب جيرة واستجارة أعلن في عكاظ ذلك، ومن أراد أن يجرم أحدا أو أن يتبرأ من جريمة أو جناية. أعلنها هناك. ومن ذلك ما رووا أن قيس بن الحدادية، كان شاعرا من شعراء الجاهلية، وكان فاتكا شجاعا، وكان من بين الصعاليك خليعا.. وأضر بقومه خزاعة ضررا بليغا، فأرادت أن تتبرأ منه فجاءت سوق عكاظ فخلعته إعلانا، فلم تعد تتحمل تبعة جريمة يأتيها، ولا تطالب بجريرة يجرها عليه أحد. إن الذي نزل إلينا من تاريخ عكاظ به الشيء الكثير من أحداث العرب، وأخبار القبائل التي كانت تفد إليها كل عام، وصورا من الحياة الجاهلية تلقي الضوء الكثير على ما جاء بعدها، وفي ظلها الأخير، من إسلام. ولا يكاد رجل عاش في ذلك الزمان، ذو بال، ولا تكاد امرأة، ذات شأن، إلا ورد له ولها ذكر في ذلك السجل التاريخي الذي اتصل قرنا او قرنين من الزمان. ولمكانة عكاظ في حياة العرب، كان يرسل كسرى من وراء الجزيرة العربية بالنادر الجميل من مصنوعات الفرس، سيفا قاطعا، أو حلة حسنة، أو فرسا مؤصلا، يرسلها إلى عكاظ. وفي عكاظ يقوم رسوله ينادي في الناس : هذه تحف كسرى، لا يأخذها إلا سيد من سادة العرب. وعندئذ لا يتقدم إليها إلا السادة فيهم. وبهذه الوسيلة كان كسرى يتبين من في العرب سادة، فيتصل بهم وكلاؤه ليعاونوه في حفظ الأمن على الحدود في داخل البلاد، وحماية القوافل عندما تمر ببلاد العرب. وشبيه بما فعل كسرى، ما فعل النعمان ملك الحيرة إذ كان يبعث إلى عكاظ كل عام عيرا محملة بضائع يقوم على حمايتها في الطريق أشراف العرب، حتى تصل إلى عكاظ، وهناك تباع، وبأثمانها يشتري الوكلاء من بضائع السوق ما راق لهم. وكان الفرسان إذا حضروا عكاظ تقنعوا حتى لا يعرف بعضهم بعضا، فينال بعض من بعض. وكان طريف بن تميم العنبري من شجعان العرب وفرسانهم، فجاء عكاظ غير مقنع. وكان طريف قتل رجلا من بني شيبان، ولحق به رجل من بني شيبان يريد أن يأخذ بثأره. ولم يكن يعرفه. فسأل عنه حتى عرفه. وجعل كلما مر به يتأمله. فقال له طريف: مالك تنظر إلي ؟ قال الرجل: أتوسمك لأعرفك، والله إن لقيتك يوما لأقتلك. وفي ذلك قال طريف الأبيات التي أولها البيت الشهير : أوَ كُلَّما وَرَدْت عُكاظَ قَبيلَةٌَ ** بعَثُوا إلىَّ عَرِيفَهُمْ يَتوسَّمُ وحدث بعد ذلك أن ظفر الرجل بطريف في يوم، من أيام العرب، فقتله. كان العرب يقدرون الوفاء، ويرفعون من قدر الأوفياء. وكذلك كانوا يكرهون الغدر، ويشهرون بالغادرين. وكانت طريقتهم في ذلك أن ترفع القبيلة في عكاظ راية غدر أو راية وفاء، ويقف إلى جانبها المنادي ينادي بالغادرين، وما كان منهم من غدر، وبالأوفياء، وما كان منهم من وفاء. وتنفض السوق وتسير في الجزيرة العربية حكايات الغدر وحكايات الوفاء، فتنزل بأقدار هؤلاء، وترفع من أقدار هؤلاء. لم تكن في البلاد صحافة، ولا وسائل إعلام. فكانت هذه من بعض وسائلهم. وفي عكاظ كان يؤدب السفهاء، من ذلك أن عبد الله بن جعدة كان في العرب سيدا. وجاء عكاظ، وجيء له باتاوة من ثياب جمعت إليه فجلس عليها. فجاءه سمير بن سلمة القشيري، فأنزل الشيخ عنها سفاهة منه. فجاء رباح بن عمرو بن ربيعة، وقال له : مالك ولشيخنا تنزله عن إتاوته ؟ قال القشيري : كذبت، ما هي له. ثم مد القشيري رجله وتحدى رباح أن يضربها، إن كان حقا عزيزا في قومه. فرفض رباح أن يفعل. فقال القشيري : إذن فمد رجلك لتنظر هل أضربها. فقال رباح : ولا أفعل هذا، ولكني أفعل ما هو أعز لي، وأذل لك. وسقط على القشيري، وسحبه من قفاه ونحاه، وأقعد الشيخ فوق الإتاوة مكانه. غلظة في الباطل وجدت ما هو أغلظ في الحق. وفي عكاظ قام قس بن ساعدة الأيادي يعظ الناس. إنها موعظة في التاريخ العربي شهيرة : "أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج. ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة. إن في السماء لخيرا، وإن في الأرض لعبرا. ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون". إلى أن يقول: في الذَّاهِبِينَ الأوَّلين ** مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ لما رَأيْتُ مَوَارِداً ** لْلمَوْتِ لَيْسَ لَها مَصَادرْ ورَأيْتُ قَوْمي نَحْوَها ** يمْضِي الأكابر والأًصاغر أيْقَنْتُ أني لا محالة ** حَيْثُ صَار الْقَوْمُ صائِرْ موعظة تتصل بحقيقة الحياة المرة اتصالا، لم أجد أعمق منها فيما قرأت من مواعظ. فهذه كان صاحبها قس بن ساعدة الأيادي، وصدع بها في عكاظ، وهو شيخ كبير. واحتشد الأقوام لسماعها وانفض القوم حيارى، لا يدرون كيف يهتدون. انصرفوا وانصرف معهم فتى لم يلق إليه أحد بالا، ولم يعرفوا له اسما. ولم تمض السنوات، عشرين أو ثلاثين، حتى انتشر اسمه في كل بادية وحاضرة. لم يكن هذا الفتى الحدث، إلا صاحب الرسالة الإسلامية، محمد رسول الله. ومضى على هذا الحدث نحو من أربعين سنة، عندما وفد قوم قس على النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رآهم ذكر هذا المشهد القديم، فسألهم عن قس بن ساعدة، ما فعلت به الأيام، قالوا مات يا رسول الله. قال الرسول: كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة. وفي عكاظ نلتقي بالنابغة الذبياني وهو صاحب المعلقة الشهيرة. وهو شاعر النعمان بن المنذر ملك الحيرة ووشى به عند النعمان من وشى، فقال قصيدته الرائعة التي يقول فيها: أتاني أبيتَ اللعنَ أنكَ لمتني ** وتلكَ التي تصطك منها المسامع مقالة ُانْ قد قلت: سوفَ أنالُهُ ** وذلك من تلقاءِ مثلكَ رائعُ وفيها يقول : فإنّك كالليلِ الذي هوَ مُدركي ** وإنْ خلتُ أنّ المنتأى عنكَ واسع وكان النابغة الحكم فيما يتنافس فيه الشعراء من الشعر في عكاظ، وكانت له قبة من ادم يجتمع فيها إليه الشعراء، وينشد كل ما لديه من الشعر، ويحكم النابغة بعد سماعه. وحدث أن اجتمع عنده الشعراء، وكان منهم حسان بن ثابت والأعشى والخنساء، وسبق فأنشده الأعشى من شعره، فحكم له. ثم أنشدته الخنساء قولها ترثي أخاها صخرا : قذى بعينكِ امْ بالعينِ عوَّارُ ** امْ أقفرت إذ ْخلتْ منْ اهلهَا الدَّارُ كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ ** فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا ** إذ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ وتقول فيها : وإنّ صَخراً لَكافِينا وسيّدُنا ** وإنّ صَخْراً إذا نَشْتو لَنَحّارُ أغَرُ أبْلَجُ تأتَمّ الهُدَاةُ بهِ ** كأنَّهُ عَلَمٌ في رأسه نَارُ جلدٌ جميلُ المحيَّا كاملٌ ورعٌ ** وَللحروبِ غداة ََالرَّوعِ مسعارُ حَمّالُ ألوِيَة هَبّاطُ أودِيَة ** شَهّادُ أنْدِيَة للجَيشِ جَرّارُ فقال النابغة: لو لم ينشدني أبو بصير، يعني الأعشى، قبلك، لقلت إنك أشعر من كل ذات مثانة. قالت ووالله من كل ذي خصيتين. أما نواح الخنساء فقد انطلق وشاع، فكان على من قتل من أهلها، أبيها عمرو بن الشريد، وأخويها معاوية وصخر، وعلى الأخص الأخير. ظلت الخنساء تبكي بالشعر قتلاها على مر السنين. وكانت تذهب كل عام إلى سوق عكاظ على هودج مسوّم يعرفها به الناس. وتبكي بالشعر ويبكي الناس. وجاء الإسلام وكان للخنساء فيه شأن عظيم، ومع هذا لم تنقطع عن الذهاب إلى عكاظ وتبكي في لباسها الأسود، وقد جللها الشيب. ونلتقي في عكاظ بعمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة: ألا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِينَا ** وَلاَ تُبْقِي خُمورَ الأَنْدَرِينا وفيها يفتخر بقومه فيقول : وَنَحْنُ التَّارِكُوْنَ لِمَا سَخِطْنَا ** وَنَحْنُ الآخِذُوْنَ لِمَا رَضِيْنَا وَكُنَّا الأَيْمنِينَ إِذَا التَقَيْنَا ** وَكَانَ الأَيْسَرِيْنَ بَنُو أَبَيْنَا فَصَالُوا صَوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيْهِمْ ** وَصُلْنَا صَوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيْنَا فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا ** وَأُبْنَا بِالمُلُوْكِ مُصَفَّدِيْنَا ألاَ لاَ يَجْهَلْنَ أحَدٌ عَلَيْنا ** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينا لنَا الدُّنْيَا ومَنْ أمْسَى عَلَيْها ** ونَبْطِشُ حَيِنَ نَبْطِشُ قَادِرِينا بغاة ظالمين وما ظلمنا ** ولكنا سنَبْدَأُ ظالِمينا فخر غلا ما غلا، ولكنه في المذلة وعند الإذلاء في السمع راحة. وكان عمرو صاغ قصيدته في العراق، ثم بدا له أن يذهب بها إلى منبر العرب الأكبر، إلى سوق عكاظ، وهناك أنشدها. وكذلك فعل أصحاب المعلقات الطويلة، ذهبوا بشعرهم هذا إلى عكاظ، ومن عكاظ انتشر في البوادي والحواضر. إن كثيرا من وظائف سوق عكاظ القديمة قد تحولت الآن إلى وظائف تقوم بها مؤسسات حديثة انتشرت في سائر ربوع الوطن العربي، والإسلامي كذلك. فمن حيث أن السوق تجارة، فقد كثرت الأسواق في كل الأرجاء، واختلفت أدواتها واختلفت وسائلها، ووجدت البورصات ووجدت البنوك والمصارف حتى لم يكن لمثل شيء من هذا موضع في عكاظها الجديد إلا أن يكون منتدى دوليا عربيا، إسلاميا، تثار فيه من مشاكل الاقتصاد الدولية ما يثار. وأما من حيث انه سوق نشر للأخبار والإعلام، فقد اتسعت النظم الإعلامية واختلفت وسائلها، وتعددت، وتعقدت، حتى لن يكون في عكاظ الجديد لشيء من ذلك مكان. ومع هذا نعود فنقول، الا إعلاما تكون فيه شركة نافعة تربط الأواصر، وتحمي الذمام. وأما من حيث أن عكاظ سوق أدب، فأنعم بذلك وأعظم. ومع هذا، نلاحظ أن أدب العرب في جاهليتهم كان شعرا. لم تكن القراءة والكتابة سائدة، ولا الأوراق منتشرة، وكان النقل مشافهة، وكان الشعر أسهل حفظا، وأحلى نغما. وبقي الشعر حتى في أوائل الإسلام، وله الكثير من السيطرة. نعم جاء الإسلام بالقرآن فانكبوا على تلاوته، ولكنهم لم ينسوا الشعر أبدا. وكان للرسول الكريم شاعر هو حسان بن ثابت. وكان النبي يستحث حسان على قول الشعر، ويستحث غيره من الشعراء، وكان يستنشد الصحابة الشعر. قال الشريد بن سويد الثقفي استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته، وهو يقول: هيه، هيه، حتى أنشدته مائة قافية. وجاء في الأخبار أن أبا بكر كان نسابة راوية للشعر الجاهلي، وكذلك كان عمر وكان لا يفد عليه وافد من قبيلة، إلا سأله عن بعض شعرائها. وجابر بن سمرة قال : جالست رسول الله أكثر من مائة مرة. فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم رسول الله. فالشعر كان لسان العرب الأول، والنثر كان لسانها الثاني. ومع إعظامي للشعر، وهو عندي ملذة من ملاذ الدنيا، لابد من الاعتراف بأن اليوم غير الأمس. وأن الشعر أصبح لا يرد اليوم إلا على ألسنة الخاصة. وهي خاصة من المثقفين خاصة، فأعداد غفيرة من مثقفي العرب اليوم لا يعرفون من شعر العرب، ولا غير العرب، شيئا. إنها الحضارة الحاضرة، هبط فيها الشعر هبوطا كبيرا. والثقافة الحاضرة، اتسعت حقا، وانتشرت في الناس انتشارا، ولكنها انتشرت على ضحالة، واقتبس العرب من الغرب هذه الضحالة فيما اقتبسوا. ومع هذا بقي من شباب العرب بقية، إذا أرادت أن تصعد إلى سلم الأدب، لم تجد إلى ذلك إلا وسيلة واحدة، هي الشعر المقفى. والظاهر أن مدرسي اللغة العربية كثروا كثرة هبطت بشغفهم بالأدب عامة، فكان من ذلك الشعر الضعيف الذي ينتجه شباب اليوم، بعد انتهاء من دراسة. إنه الحب، يريد الشباب أن يتروحوا منه، فيصبونه شعرا، قبل نضوج. إن قول الشعر فيه شفاء لقائله، وهو بذلك يؤدي في الشباب غاية. *-/*-/*-/*- والله الموفق 2014-07-01 محمد الشودري