فى صفحة الوفيات من أهرام أمس الأول الجمعة، وعلى عمود واحد، وليس فى الصفحة الأولى على أربعة أعمدة على الأقل، نشر «توفى إلى رحمة الله تعالى المستشار والكاتب والمفكر محمد سعيد العشماوى، رئيس محكمة أمن الدولة العليا سابقاً، ورئيس محكمة الجنايات سابقاً» وفى نهاية النعى «واقتصر العزاء على تشييع الجنازة بمدافن الأسرة حسب وصية المرحوم، ولا أراكم الله مكروهاً فى عزيز لديكم». التفكير الاستراتيجى يعنى رؤية متوقعة للمستقبل على ضوء فهم عميق للماضى والحاضر، وقد رأى هنرى كسنجر دور الصين الحالى فى العالم منذ نصف قرن، ودفع الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الاعتراف بها عام 1972، ورأت تلميذته كونداليزا رايس ما يحدث فى مصر والعالم العربى اليوم منذ مطلع القرن الجديد، وأطلقت عليه الفوضى الخلاقة نتيجة الكبت الديكتاتورى الطويل، وسمى الربيع العربى، ونحن الآن فى الفوضى على أمل أن تسفر عن ديمقراطية حقيقية لنلحق بالعالم، وليس أدل على هذه الفوضى، أو الانهيار الحضارى، مثل أن ينشر خبر وفاة سعيد العشماوى فى صفحة الوفيات، ولاشك أن فقيد مصر الكبير كان مدركاً لذلك الانهيار فأوصى بعدم إقامة العزاء لأن أحداً لن يحضره. كان العشماوى على حق فى وصيته، والدليل الواضح أن خبر وفاته لم ينشر سوى فى صفحة الوفيات بالأهرام، ولكنه غادر الدنيا بنفس مطمئنة، ورجع إلى ربه راضياً مرضياً، آملاً أنه كان على حق أيضاً فى كل حكم نطق به كقاض، وفى كل كلمة كتبها كمفكر، وقد كان كذلك بالفعل، بل أنه غادر الدنيا سعيداً، فمن كان مثله لا تعنيه الأضواء، وليس كل ما يلمع ذهباًَ، لأن الإخوان لم يتمكنوا من حكم مصر سوى سنة واحدة، وثار عليهم الشعب المصرى وأثبت للعالم عدم صحة المقولة السائدة فى الغرب كما فى الشرق بأن هؤلاء العرب يريدون العودة إلى حكم يشبه حكم الكنيسة فى أوروبا منذ خمسة قرون، والذى اعتبره الأوروبيون عصر الظلام والظلم للدين والبشر معاً. فقدت مصر أحد كبار فرسان الحرية والعدل والوطنية والإنسانية، ولاشك أن الدكتور أحمد مجاهد، رئيس هيئة الكتاب، سوف يقوم بواجبه فى إعادة طبع كتب الفقيد فى طبعات شعبية، وسوف يتذكره فى معرض القاهرة للكتاب فى يناير القادم.