مدينة دبدو… تبكي يهودها وجدة: ادريس العولة انصهار وتعايش الحضارة الإسلامية واليهودية ببلدة دبدو على مر السنين كثيرة هي المناطق ببلادنا التي تعايش فيها المغاربة واليهود جنبا إلى جنب وبشكل متجانس فالتاريخ يحفظ ذلك عن ظهر قلب، والآثار والعمران خير شاهد على ذلك أيضا،وتبقى من بين المناطق التي ارتبط اسمها بشكل كبير ووطيد باليهود مدينة دبدو المترامية الأطراف بالمغرب العميق حيث لم تنل حظها من أبحاث المؤرخين والكتاب والجيولوجيين لاكتشاف المعالم العذراء التي تزخربها هذه المنطقة الساحرة، وإن كانت هناك بعض المبادرات فهي تبقى جد محتشمة وليس بوسعها أن تحيط بجوانب هامة بنمط العيش لأهل هذه المنطقة التي ظلت ولسنين طويلة قلعة محصنة لفئة مهمة من اليهود الذين فروا من اضطهاد وبطش الاسبان إبان انهيار الحكم الإسلامي بالأندلس، وحلوا ضيوفا على أهل البلدة الذين استقبلوهم بصدر رحب، وتحولت تلك البلدة الصغيرة الهادئة النائية إلى قلعة تجارية كبيرة يؤمها التجار من كل المدن المغربية والأقطار العربية والإفريقية، للتزود بمختلف السلع والبضائع من أثواب وتوابل ومواد غذائية وغيرها من المواد الأخرى، إضافة إلى بعض المنتجات الصناعية التي تفننت يد الصانع اليهودي في إبداعها، معطى دفع باليهود إلى بدل مجهود إضافي لجعل البلدة قلعة محصنة لهم بعدما أحسوا و شعروا بالأمن والآمان والسلام مع أهل المنطقة ، وانصهروا في الحياة العامة لهذا المجتمع الصغير المضياف الذي أبان عن استعداد كامل للتعايش كما تعايش الأسلاف والأجداد مع حضارات لأمم غابرة من فنيقيين وقرطاجيين ورومانيين وغيرهم من الشعوب التي تعاقبت على حكم المنطقة، شرع اليهود في بناء معابدهم إلى جنب مساجد المسلمين في صورة واضحة تنم على تعايش الحضارات والأديان دون كراهية ولا تعصب ، شيدوا المقابر لدفن موتاهم بنوا المرافق الخاصة بهم توالدوا وتناسلوا، ذاع صيت البلدة في كل الأقطار وصارت قبلة للتجار ولكل من يرغب عن الترويح عن النفس في الجبال الشامخة ذات بهاء وحسن طبيعي قل نظيره، وكذا الاستمتاع بالمياه العذبة لعين "سبيليا" التي ترتوي منها أرض البلدة المعطاء، وأطلق اليهود هذا الاسم على العين المذكورة تيمنا بمدينة "اشبيلية" الأندلسية التي طردوا منها يوما، توطدت العلاقة بين المسلمين واليهود وشكلوا كتلة واحدة ليس بوسع أحد اختراقها، وظلت الأمور على حالها، حتى العشرية الأولى من القرن الماضي نقطة تحول ثانية في تاريخ المنطقة حينما حل أكثر من 2000 يهودي دفعة واحدة على البلدة يمثلون مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، كان حينها المغرب يئن تحت سلطة الحماية الفرنسية، حلوا بالبلدة بعدما فروا من جحيم الحرب العالمية الأولى التي كانت تدور رحاها بالدول الأوروبية وحولتها إلى دمار وخراب، وانعدم فيها الأمن والسلام وكسدت وبارت فيها التجارة، واستحال فيها العيش وفضل اليهود مغادرتها طواعية للبحث عن مكان آمن للتعايش والسلام وجدوه في مدينة دبدو . الطريق إلى دبدو الشمس أوشكت على المغيب ، سيارة الأجرة من الصنف الكبير تسير بسرعة بطيئة عبر طريق غير معبدة توقفت بها الأشغال بإيعاز من الجهات المعنية منذ عشرة أيام على إثر وقوفها على عملية غش من طرف المقاولة التي رست عليها صفقة إعادة هيكلة الطريق الرابطة بين مدينتي تاوريرت ودبدو، هكذا كان السائق يتحدث بمرارة عن ما يعانيه من ويلات الطريق وما لحق سيارته من أضرار مادية نتيجة غياب طريق معبدة تقيه شر "البيست" قبل أن يتحدث عن المنافسة الغير مشروعة "للخطافة " وهي الظاهرة التي استفحلت بشكل كبير في الآونة الأخيرة بسبب الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت دولة إسبانيا ودفعت بالعديد من سكان البلدة العودة إلى ديارهم واستعمال سيارتهم في النقل السري دون أن تتحرك الجهات المعنية للحد من هذا الوضع الذي أثر بشكل واضح على قطاع النقل المهيكل.
مدينة دبدو "طولكرم الصغرى" تبدو المدينة في تلك المساء هادئة، محروسة ومطوقة بجبال شامخة شكلت على الدوام حصنا منيعا وقلعة واقية للسكان من هجومات الطامعين في خيرات البلدة، تتوسطها قصبة "بنو مرين" التي تبقى شاهدة على حضارة مدينة دبدو العريقة والمجيدة التي تعاقبت على حكمها حضارات قديمة متجدرة ومترسخة في تاريخ الحضارة الإنسانية من "فنيقيين" و"قرطاجيين " وغيرها من الحضارات الأخرى، معطى دفع فضول العديد من الباحثين والمؤرخين الأجانب الغوص في البحث والتنقيب في الطبيعة العذراء لهذه المنطقة الساحرة لاكتشاف ما تختزله من تاريخ عميق للتعرف أكثر عن مناحي حياة الإنسان عبر العصورفي جبالها الشامخة التي تحدث عنها "ابن خلدون " في مقدمته حينما وصفها بالخضراء والمعطاء، لما كانت ولا تزال تجود به أراضيها من خيرات على أهل المنطقة بما طاب ولذ من خضر وفواكه وأشجار الزيتون والتين والجوز التي ترتوي يعيون المياه العذبة والمتدفقة من الجبال الخضراء أين تختفي ورائها النجود العليا أو ما يصطلح عليها لدى ساكنة المنطقة "بالظهرة" التي ظلت ولا زالت على الدوام الملاذ الآمن للرحل الذين يعتمدون في عيشهم على تربية الماشية بالمنطقة يعيشون عالمهم الخاص غير مكترثين ولا عابئين بالتطورات الحديثة التي يعرفها العالم في جميع مناحي الحياة وعلى شتى الأصعدة، همهم الوحيد هو العناية والاهتمام بقطيعهم إذ يقطعون المسافات الطويلة بحثا عن المراعي لإطعام ماشيتهم فالقوانين الوضعية لا تعنيهم في شيء فالمهمة لا زلت عندهم ترتبط بالزعيم التي ترجع له القبائل لحل كل الخلافات والنزاعات فلا حاجة ولا داعي "للمخزن" لكي يتدخل في شؤونهم وحياتهم الخاصة هكذا إذن الحياة في "الظهرة" التي يبقى الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود إذ يصعب على غيرها أهلها التوغل داخل أدغالها والخروج منها بسلام . مواقد تتصاعد أدخنتها نحو السماء لتمتزج بعبق تاريخ البلدة حركة خفيفة تعرفها البلدة ذلك المساء ، البرد القارس الذي يهب على المكان أجبر السكان على لزوم بيوتهم ، المواقد"المجامير" الحديدية والخزفية تنتشر في كل الأزقة الضيقة غالبية منازلها مهجورة وآيلة للسقوط بعدما هجرها أصحابها من اليهود في اتجاه إسرائيل وأمريكا والدار البيضاء وغيرها من المناطق الأخرى دون رجعة، وإن كانوا في أحيان عديدة يحلون ضيوفا على المنطقة من أجل الوقوف على حضارة الأجداد والأسلاف ليس إلا، أدخنة المواقد تتصاعد نحو السماء لتمتزج مع عبق االتاريخ ، في انتظار أن تنجلي الأدخنة الكثيفة لتحمل المواقد إلى البيوت لتضفي عليها دفئا يقي الأهل من لفحات برد جارح. وما أن تطأ قدمك لأول لحظة المدينة، يوحى لك أنك في قلعة تجارية مهمة وسوق تجاري كبير، من كثرة المحلات التجارية المنتشرة هنا وهناك، تصادفك أين تجولت وارتحلت في أرجاء المدينة التي تبعد عن حاضرة تاوريرت بحوالي 50 كيلومتر من الناحية الجنوبية ، محلات ذات أبواب خشبية مغلقة بأقفال حديدية طالها الصدأ والتآكل هجرها وتخلى عنها أصحابها يوما ما،بعدما كانت البلدة تعج بحركة اقتصادية وتجارية قل نظيرها ، قبل أن يحل محلها الكساد والبوار ولم تعد البلدة التي كانت إلى الأمس القريب مهدا للحضارة والتعايش الديني والرواج التجاري. سقوط الأندلس ونشوب الحرب العالمية الأولى دفع باليهود البحث عن أماكن آمنة للعيش حينما انهارت الحضارة الإسلامية بشبة الجزيرة الإيبيرية وسقطت الأندلس بيد الاسبان ولم يعد بقدرة المسلمين المواجهة والمقاومة، قام أصحاب الأرض بطرد المسلمين واليهود على حد سواء، حيث فضلوا العودة من جديد نحوالمغرب واستقروا بالعديد من المدن المغاربية كفاسالرباطووجدة وتلمسان والقيروان وغيرها من المدن الأخرى بحثا عن حياة آمنة وحملوا معهم موروثا حضاريا وثقافيا تم ترسيخه في المجتمعات المستقبلة لهم ولا زالت بعض آثار هذه الثقافات حاضرة ومتجلية في النسيج الثقافي ببلادنا وأخص بالذكر الطرب الغرناطي الذي كان بمثابة متنفس للتعبير عن معاناة "الموريسكيين" أثناء سقوط الأندلس، نفس الشيء بالنسبة لليهود الذين فضلوا الاستقرار بعدة مدن مغربية، من بينها بلدة دبدو التي حولوها إلى قلعة تجارية مهمة خلال تلك الحقبة حيث كانوا يستقدمون السلع والبضائع من مدن فاس وتلمسان لإعادة بيعها وترويجها في البلدة التي ذاع صيتها وتحولت إلى قبلة مفضلة لكبار التجار من كل أنحاء البلاد وخارجها وصارت بمثابة محطة رئيسية وأساسية للقوافل التجارية القادمة من الصحراء المحملة بمختلف السلع والبضائع من أثواب وتوابل ومود غذائية أساسية. واستطاع اليهود التعايش والاندماج بشكل سريع في النسيج الاجتماعي حيث بنوا منازلهم وشيدوا معابدهم والمقابر لدفن موتاهم ، وظلوا يمارسون طقوسهم الدينية بشكل عادي وبحرية كاملة دون حسد ولا كراهية، بني المعبد اليهودي بالقرب من مسجد المسلمين وساد منطق "لكم دينكم ولنا ديننا" بل أكثر من هذا عمل اليهود على الانصهار والذوبان بشكل كلي داخل النسيج المجتمعي، بعدما تخلوا عن منطق بناء أحياء سكنية خاصة بهم كما هو الشأن بالنسبة لعدة مدن أخرى أو ما يصطلح عليه لدى العامية "بالملاح" وهو المكان المخصص لإيواء وسكن اليهود، وطيلة الفترة التي قضاها اليهود بالبلدة لم يتعرضوا لأية مضايقات أو تصرفات عنصرية من طرف سكان البلدة كما حدث لهم في مدن أخرى، سر كان وراء تعلق اليهود بهذه البلدة ، وظل الجميع يتعايش في أمن وسلام، ولما اشتدت أوزار الحرب العالمية الأولى في أوروبا وما خلفته من دمار شامل، ولم تعد القارة الأوروبية تلك المكان الآمن، فضل العديد من اليهود ممن كانوا يقيمون هناك الهروب من جحيم الحرب العالمية الأولى، ونظرا للسمعة الطيبة التي كانت تتميز بها البلدة بخصوص موضوع التعايش فضل العديد منهم اللجوء والهروب نحو مدينة دبدو التي كان حينها المغرب يرزح تحت وطأة الحماية الفرنسية، وذكرت بعض المصادر التاريخية أنه حل في تلك الحقبة حوالي 2000 يهودي دفعة واحدة يشكلون مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، وتجاوز عددهم السكان الأصليون للبلدة، حيث وجدوا كل الظروف مواتية لعيش حياة عادية ، هكذا يقول "أبو هشام" الذي قارب عقده الثامن لقد شكل اليهود خلال هذه الفترة قوة اقتصادية كبرى أعطت للمنطقة برمتها حيوية تجارية غير مسبوقة وصارت قلعة تجارية بامتياز وذاع صيتها وانتشرت المحلات والدكاكين التجارية المؤثثة بكل أنواع السلع والبضائع التي تجلب الزائر للمنطقة، فيما اشتغلت فئة أخرى ببعض المهن الأخرى كصناعة وإصلاح الأحذية والحدادة والدرازة وغيرها من الحرف الأخرى، فيما اقتصر أهل المنطقة على مجال الفلاحة وتربية الماشية، حيث عمل العديد من اليهود على اقتناء أراضي فلاحية خصبة وعمدوا إلى إسناد تولي أمر زراعتها والعناية بها لسكان البلدة مقابل الخمس أو ما يسمى "بالخماس", حزن وبكاء الساكنة يوم كان اليهود يستعدون للرحيل من البلدة يوم عم انتشار خبر رحيل اليهود عن البلدة في اتجاه اسرائيل وأمريكا والدار البيضاء خلال منتصف سبعينيات القرن الماضي، ساد الحزن والآسى في أوساط ساكنة مدينة دبدو يقول "أبو هشام"حيث لم يقو أهل البلدة على هذا الفراق الغير مرتقب، نفس الشعور راود بعض اليهود الذين فضلوا البقاء ، وخاصة الشيوخ منهم الذين اختاروا عيش ما تبقى من العمرهناك، وأوصوا بأن توارى جثامينهم تراب البلدة التي تتوفر ولحدود الآن على مقبرتين لليهود تجسد لمحطتين تاريخيتين أساسيتين لهم بهذه المنطقة، حيث عملت إحدى الجمعيات اليهودية على إعادة ترميم المقبرتين خلال منتصف تسعينيات القرن الماضي من خلال تسييجهما بجدار إسمنتي ، عكس السلطات الفرنسية التي عملت على نقل رفات حوالي 25 جنديا لقوا حتفهم في معركة حنون الشهيرة التي خاضها سكان المنطقة ضد المستعمر الفرنسي، هكذا يحكي "أبو هشام" لصحيفة الناس بحسرة شديدة على الزمن الجميل لليهود الذين بمجرد مغادرتهم للبلدة حتى فقدت لمعانها وبريقها التجاري وفقدت هبتها ووقارها أيضا، يا ليث يعود زمن اليهود وتعود مياه عين "تافرانت" التي جفت ونبضت، تلك العين التي تحدث عنها المفكر المغربي عبد الله العروي في روايته أوراق حينما قال: "عين تافرانت " تستغل من طرف لا حق لهم فيها"، في إشارة قوية إلى المعمرين الفرنسيين ومن يدور في فلكهم الذين من أجل استحوذ وا واستولوا على مياه هذه الساقية وحرموا الفقراء والفلاحين من نعم هذه العين.