الروائية والناقدة سعدية السلايلي العتبات الموحية: الصورة: جدار صغير يفصح عما وراءه أكثر مما يفصح عما دونه... وفي ذلك إيحاء بالوظيفة القدحية للجدار المعنوي . العنوان: جدار، جمع جدر وجدران وهو الحائط أو الفاصل ويفيد معنى الحجز سواء كان ماديا او معنويا فيقال:‘‘ بينهما جدار من الخصام والحقد‘‘ ويقال:‘‘ جدر الرجل إذا توارى‘‘ وقد ورد الجدار غير معرف مما يفيد الجزء من الكل بمعنى أن الأمر يتعلق بجدار من بين جدران لا حصر لعددها. ولكنه ليس أي جدار إنه جدار السي احمد الذي تمحورت حوله كل حياته بأفراحها وأحزانها . لكل منا جداره الخاص فمنا من هو مسكون بجدار الصمت ومنا من هو مسكون بجدار الحقد، أو الميز، أو الفقر... فما هي خصائص جدار أو جدار سي احمد؟ وما نوعها أو أنواعها؟
يقول في الصفحة 11:‘‘ وتذكرت مكانا أكرهه. كان هو ‘‘الجدار‘‘ الملعون شق صدر منزلنا العتيق نصفين متساويين....حجب الملعون عني الوجه الملائكي لفاطمة الصغيرة، بنت عمي...بنوه من الحجر الصلد، ليعمر أجيالا. هذا ما قالوه في معركة انخرط الكبار تحت أنظار الصغار القلقة والسبب، تفاهات عرت قصر عقولهم المحمومة بالحقد الدفين أدهشتها نحن الصغار. رصصوه بالإسمنت المسلح والخرسانة. بنوه عاليا تعدى سطح المنزل العتيق، وغرسوا في أعلاه شظايا الزجاج الأبيض والأخضر والأحمر. وما عاد منزلنا العتيق كما كان. حولوه إلى سجن بعنبرين.ص15 الجدران معرة الأشقاء، أينما بنيت حولت البيوت العريقة إلى سجون. ص88 أيها الجدار الملعون تحولت إلى هم أبدي. حمل والدي عصبك إلى مثواه الأخير، واعيش أنا خزيك لحظة بلحظة . أنت مشكلة. أنت قضية. ص108 ولما فتحت الباب الخشبي تراءى لي الجدار الملعون. كان شامخا كالطود العظيم. رأيته يعلو حتى بلغ عنان السماء يزاحم النجوم. وكنت صغيرا في تماس مع حجم البعوض...ص129
تعددت معاني الجدار وتناسلت عبر التقدم في أدغال النص المشوق والممزق بين الصفاء الأولي الفطري للإنسان وملامح التشوه التي ترافق تحوله إلى كائن مستهلك للمدنية. فما هي وجوه هذا التنوع وما هي الجدران المتوارية وراء جدار سي احمد؟؟؟
العمر جدار: وتركوني قائما ممزقا بين زينب ، وقد فصلني عنها فرق الأعوام التي بيننا، وفاطمة الصغيرة وقد فصلني عنها الجار الملعون.ص26 التمدن جدار: أنتم لا تصنعون مثل هذه الفرجة في المدينة؟ رددت عليه يكفي أن نبني الجدران بالحجارة الزرقاء. و الإسمنت المسلح والزجاج..ص29 الأسرة النووية جدار: انقسم المطبخ بأوانيه ولذة طبخه ص87 السفر جدار: ‘‘الماشينا الي اديتي خويا جيبيه ولا لحقيني بيه‘‘ص49 وأسمعها تناديه في الجرة: آآآ سعيد ويتردد الصوت في الجرة مبحوحا مثخنا بجراح الفراق..ظننتها قريبة من الجنون لا محالة.ص67 غاص القطار في سحابة دخان أسود اختلط بصفير حاد ينبه الخلق لسطوته وجبروته الفولاذية . ابتعدوا عن خطيه المتوازيين إلى ما لا نهاية...ص 205 الموت جدار: والموت في الرواية نوعان: جسدي كما جان من موت الوالد، وزينب وعبد الباقي، ومعنوي كما كان من موت العم والأخ سعيد. الوالد: تحول ذاك الذي كلن اسمه والدي جثمان بارد إكرامه هو الإسراع بدفنه في قبر بعلامة ترشدنا غليه إذا تهنا بين قبور منسية..ص46 عبد الباقي: رأيت ما تبقى من شخص اسمه عبد الباقي يتمسك بخيط رقيق يفصل بين الحياة والموت. وتعمدت البقاء بجواره لأرى كيف سيغادر هذه الدنيا وهو ما زال معلقا بها...ص225 الأخ سعيد: وقع أخي برسالته تلك شهادة وفاته، وصليت عليه صلاة الغائب ووقفت على قبر مجهول في مقبرة مجهولة وأبنته بكلمات نزلت من فمي كالحمر. حرقت لساني وشفتي وذقني وملابسي الداخلية وشعر صدري..ص74 يا احمد، أخوك مات في رسالته الأخيرة خنزيرا متشردا، تصدق موته تارة وتكذبها تارة . ما هذا الهراء؟ أخوك مات صدق! ...ص159 العم: عمي مات حيا يا ما...ص75 الفوارق الاجتماعية جدار: تملكتني الدهشة والخوف وأنا أقف أمام بابها الفولاذي، بدفتيه العريضتين...يتوسطه باب صغير يعلوه كوة مربعة تفتح على قضبان حديدية ...ص53 ماذا دهاك أيها الشاب الأمرد؟ هل أنت عاقل أو مخبول؟ لماذا تركت حور المدينة خلفك وجئت لتتزوج من هنا؟...ص61 الثقافة والأعراف جدار: أرسل لي يوما صورته صحبة فرنسية في لباس البحر. ظهر فيها يحمل جعة بيده اليمنى وسيجارا كوبيا بيده اليسرى...رميتها في الكانون.ص72 منذ وطأت قدمي هذه الأرض. كنت أحس بذلك الخيط الذي يربطني بكم يترقق حتى عاد كخيط عنكبوت في العتمة.ص73 الجنس جدار: فعقدة عمي وزوجته كانت في إنجاب الولد. ص80 خرجت ليلى مبكرة إلى عالم تحاسب فيه النساء دون الرجال على صنيع مشترك مقرف. ص219 الدين جدار: كان الفيلم هنديا يصور مأساة شعب مزقته الديانات والأعراف إلى كبقات منغلقة لا تسمح للإنسان بالارتقاء الاجتماعي....ص208 التخلف جدار: من الكفار بقيمة الإنسان؟هم أم نحن؟ (قويدر لقرع) لماذا تقدم الآخرون وبقينا معرة الأجناس؟ ص212 الاستبداد السياسي جدار. فهمت مغزى كلام والدي الذي شاهد من بعيد كيف تهارشت الكلاب على هذا الوطن الغنيمة وأرهبت كل من قال ‘‘ الشعب يريد الحرية والمساواة والكرامة والخبز‘‘ أرهبته بسنوات الرصاص والحديد والنار. واتهمت خيرة الشباب باسم كل ما من شأنه.ص202 نال حقه من الاستقلال المغشوش في معتقل سري أربع سنوات...ص203 ولائحة الجدران طويلة لا حد لها...لكل منا جداره الخاص الذي يحجز إنسانيته ويمنعه من الاستمتاع بطبيعته الطيبة الهادئة السعيدة ...الإنسانية. كيف قدم المؤلف هذه الأفكار وفي أية حلة أسلوبية لفها ؟ وهل من علاقة منطقية بين المضمون الذي تحدثنا عن بعضة سابقا والصيغ الأسلوبية التي اختارها؟ وإلى أي حد توفق في ذلك ؟ إذا كنا اخترنا كعنوان لهذه القراءة ‘‘مرافعة لصالح الإنسانية‘‘ فذلك لا يعني البتة أن الرواية قدمت في أسلوب تقريري، خطابي، مباشر...بل على العكس تماما. أطلعكم في هذا المضمار على جملة كتبتها للأخ المبدع محمد امباركي عندما قرأت الرواية أول مرة:‘‘ أحسست وأنا أنهي نصك الرائع أو سيلا من الطفولة يتسربل بين أصابعي وأني تشبعت من طاقة إنسانية سخية.‘‘ كيف ذلك؟ ما الذي جعل الأسلوب بهذا التأثير؟ أولا: التسامح، فالشخصيات ليست شخصيات بالمعنى الكلاسيكي النمطي، بل هي شخصيات آدمية تنطوي على التناقضات وهي مقبولة كما هي وموظفة كما هي دون أحكام مسبقة ولا أحكام قيمة. ثانيا: التركيز على الحدث لا على الحيثيات. تبدو شخصيات الجدار كأنما تحركها قدرية ما. تارة تكون اجتماعية (كما هو الحال بالنسبة لليلى) وتارة قيمية أخلاقية (كما هو الحال بالنسبة لسي احمد)، وتارة إديولوجية فكرية (بالنسبة لسعيد) مثال على المواقف المليئة بالتسامح والإذعان للأمر الواقع. أنا لا أعود إلى الوراء أبدا خير ما تفعل يا سي احمد لكن اعلم أنني أحببتك من كل قلبي رغم كونك كنت ‘‘عابر سرير‘‘ جئت لأعرض عليك الزواج كنت ستجدني رافضة للأمر لماذا؟ فالزواج شتر والله غفور رحيم سكتت مخنوقة. صافحتني وانصرفت مرددة ‘‘ الله يسعدك‘‘ ص 173 أسلوب فيه من الطيبة والتسامح والخير والطهر الروحي ما يسمح بمسافة شاسعة من التطهر من الحقد والحسد وحب التملك والأحكام القاسية ...