كل سكان حي "ديور سنياك" يعرفون أمي وردية. كانت تقطن مع أختها الشقيقة في بيت من طابقين, لاتفترقان أبدا كالتوامان.عندما مرضت أمي وردية كانت أختها سندا لها رعتها بكل تفان خاصة وان أمي وردية عاشت طول حياتها مدللة. ماتت الأخت الحنونة وبقيت أمي وردية وحيدة في بيتها العريض.هو كل ما تملكه بعد سنوات طويلة من الثراء و البذخ و العيش الرغيد. لم تكن أمي وردية طاعنة في السن, لكن المرض أقعدها, انتفاخ ركبتيها شل حركتها و هي التي كانت تجوب الدنيا و لا تجد سعادتها إلا في السفرو التنقل عبر مدن المغرب و العالم. بعد المرض أصبحت تقضي معظم وقتها جالسة على عتبة الباب تمد رجليها و عصاها التي تهش بها على الأطفال حين يزعجوها بالصراخ و هم يلعبون كرة القدم. رغم لسانها الطويل و طبعها الحاد, فقد كان اغلب سكان الحي يعطفون عليها, وهذه خاصية الأحياء الشعبية, ويلبون طلباتها, يأتون لها بالدواء من الصيدلية وبالخضر من سوق الحرية أو باللبن الذي كانت تحبه كثيرا وخاصة "لبن البخاري". و ما من عرس يقام إلا ولامي وردية مكان فيه.تذهب صحبة الجيران متكئة على عصاها لأنها رغم تعبها كانت صاحبة نكتة بل كانت تصاحب الجوقة في الغناء.مرضها لم يضعف صوتها. اختلفت الآراء حول حياة أمي وردية. قيل إنها كانت متزوجة من جزائري هجرها وعاد إلى بلاده, كما قيا إنها لم تتزوج أبدا.بعضهم أكد أنها كانت ترتاد الملاهي الليلية وبعضهم قال إنها كانت ببساطة شديدة "شيخة" في بلاد الغربة و هذا ما يفسر ثراءها القديم.لكن الكل اجمع على أنها كانت ذات حسن جذاب و مغري و أنوثة صارخة دوخت بها الرجال الذين كانوا ينفقون عليها ما يملكون و ما لا يملكون. و إذا كان لعاب الرجال يسيل كلما مرت أمي وردية أمامهم في خيلاء, فإنها كانت أيضا تجدب النساء اللواتي وجدن في صحبتها إفراغا لمكبوتاتهن, وان جارت عليها الأيام و أفقدتها حيويتها, فقد ظل المثل الشعبي المغربي ينطبق عليها" غالى غاب الزين يبقاو حروفو". قبالة بيتها كان يقطن شاب تجاوز الثلاثين, في حجرة صغيرة تمتص نصف راتبه الضئيل.كلما رأى امي وردية حياها باحترام ثم دخل غرفته فوق السطوح.بدأت العجوز تفكر..في اردل العمر تعيش وحيدة في بيت واسع.فكرت في دار العجزة. لكنها تحب الحياة و تحب الناس و نزلاء "بستان العجزة" بالقنيطرة, أشبه بالأموات. لو كان لها ابن أو ابنة أو زوج لما خافت من أن تموت وحيدة. دخلت امي وردية في حوار عميق مع نفسها و في صمت طويل لم يعتده عليه سكان حي "ديور سنياك". بل بدأت تغيب عن النظار أحيانا, أحيانا أخرى يرونها قادمة من مكان ما بصحبة جارها الشاب "أمين". لقد فكرت مليا,قررت ثم نفذت..ولم لا؟ هي حرة في نفسها كما كانت دائما وفي ملكها. هي خائفة من أن يفاجئها الموت وحيدة و أمين "مقطوع من شجرة" و خائف من مستقبل غير مضمون. فكتب العقد. تترك امي وردية البيت الذي تمتلكه للسيد أمين بعد وفاتها شريطة أن يهتم بها و يرعاها و يتفقد أحوالها كأم له. كتب العقد أمام شهود من بعض الجيران. ظلت امي وردية تجلس أمام بيتها حتى وافتها المنية ذات يوم و بجانبها جارها و ابنها أمين الذي انتقل بعد ذلك من حجرته البئيسة إلى بيته الجديد بيت أمي وردية.