هل ما يحدث في الأمة العربية ومعها المغرب حدث عابر؟ أم زلزال تاريخي سيؤدي لامحالة إلى منعطف تاريخي جديد. إن من ينظر بعين متفحصة، تستمد أدواتها من التحليل التاريخي والأنتروبولوجي والسوسيوسياسي، يرى أن هذه الهبة الشعبية لها ما لها في مستقبل الأيام وحاضر الأمة. لماذا؟ لأنها تشترك في المنطلقات وتتوحد في الهدف : موجة شعبية عارمة سلمية من أجل إسقاط الاستبداد والتخلص من دين الانقياد. دين الانقياد ذلك المفهوم الخلدوني الذي شرح به تبعية الشعوب لقائدها رغما عنها، حتى يصبح أب الجميع، سبوح قدوس لا حول ولا قوة إلا به ،الانقياد الأعمى، والتبرير الأصم، والتعلق الأبكم... لكن نم مطمئنا حكيمنا، فها هو شباب القرن 21 يدشن مرحلة جديدة ،ستصحح العقيدة وترسم ملحمة تاريخية قوامها الحرية والعدل والكرامة، وعربونها التضحية والتدافع بكل الوسائل السلمية من أجل رحيل الظلم والظالمين وكسر دين الانقياد، الذي عشش في القلوب وخرب النفوس والعقول وأهلك الزرع والضرع. ابن خلدون ودين الانقياد: تحدث حكيم الأمة العلامة ابن خلدون عن العلاقة السيكولوجية التي تربط بين الرعية والراعي المستولي بالقوة والقهر، ووصفها بأنها تتحول عبر تراكم تاريخي إلى ولاء يصل حد التدين ،أطلق عليه إسم "دين الانقياد" وهو اعتقاد شعوري تفرضه الأنظمة السياسية التي تغيب الشعب وتجعل منه رعية تابع للراعي بقوة السيف والعنف وبمكر التفرقة والاحتواء والإغراء. وقد جعل لدين الانقياد ثلاث مراحل: المرحلة الأولى : تحكم الدولة بالقوة والبطش نظرا لأن النفوس تأبى الانقياد والاستبداد فطرة، فتحدث مقاومة تلقائية شرسة للدولة في بدايتها ، وحين تتمكن عصبية الدولة من فرط سلطانها يدب في النفوس استسلام لقوة المستولي بالسيف، فيبدأ دين الانقياد في التشكل، يشرح ذلك ابن خلدون في مقدمته بقوله : " إن الدولة العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب للغرابة، وإن الناس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه. فإذا استقرت الرياسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية، واستحكمت لأهل ذلك النصاب صبغة الرياسة، ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم قتالهم على العقائد الإيمانية، فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة " و هذه المقاومة التلقائية للاستبداد ، فطرة جبل عليها بني آدم، لأن الإنسان يولد حرا كريما والعلاقات التي يفرضها المجتمع هي التي تحوله إلى عبد أو إمعة، وهذا ما يجعل التاريخ الإنساني كله صراع بين الفطرة الإنسانية المجبولة على الحرية والعدل والكرامة، وبين قوى الشر والفرعونية التي تريد تركيع الإنسان وتعبيده. المرحلة الثانية: يصل فيها دين الانقياد إلى قمته ويسلس جزء عريض من الشعب القياد لراعيه كيفما كانت أوصافه وتصرفاته، حتى ولو رأى بأم عينيه حقائق ظلمه وتلمس بيديه استبداده وانفراده بالمجد. فيدخل الشعب في طاعة عمياء للدولة ويؤمن " أن طاعتها كتاب الله لايبدل ولا يعلم خلافه" وفي فترة شيخوخة الدولة وهرمها و بوار عصبيتها ،تسود سلطة الدولة بما عهدته النفوس من دين الانقياد يقول العلامة الحكيم " وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها. فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة" دين الانقياد وسنة التدافع من السنن الكونية أن هذا الاعتقاد الانقيادي، تظل طائفة من الشعب ممانعة ومدافعة له، قد تظهر على شكل تجمعات مذهبية أو تيارات إديولوجية أو على شكل آراء لعلماء ومفكرين لهم صيت وازن في ضمير المجتمع، فيكون نصيبهم القمع والسجن وفي حالة قصوى الاعدام... ومن حيث يضن السلطان أنه بهذه الأفعال يبسط سيطرته ويحكم قبضته، فإن الحصار وتكميم الأفواه والعنف، يؤدي إلى نقد ذاتي من طرف العقل الجمعي للمجتمع، يبدأ في المنتديات العامة والخاصة، ثم ما يفتئ يتحول إلى غضب شعبي وموجة عارمة، لا يمكن إيقافها إلا بتغيير حقيقي، حتى ولو استعملت زبانية السلطة أقوى ما لديها من أجهزة وأساليب القمع، والحقيقة ماثلة أمامنا في هذه المرحلة التاريخية التي تمر منها الأمة العربية ، فانتفاضة سيدي بوزيد لم تكن تطالب برأس بنعلي، وإنما كانت تريد خبزا وعيشا كريما، لكن إطلاق أول رصاصة ضد المحتجين، كانت وحدها كافية لانفجار الأوضاع واندماج الشعب التونسي بكامله في ثورة راديكالية المطالب، تريد تغييرا جذريا عنوانه "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهكذا تحول كلام المنتديات والنقد الذاتي للمجتمع إلى حقيقة ثورية، جعلت الرئيس التونسي يعترف بمطالب الشعب، معبرا عن ذلك بكلمة تاريخية "أنا فهمتكم" قالها في الوقت الذي كانت طائرته تنتظر إنهاءه لخطابه ليفر إلى السعودية. ما جرى في تونس هو نفسه جرى في مصر، مع اختلاف في الأساليب والحراك الشعبي، فسقف المطالب فرضه حسني مبارك، حينما أعطى أوامره للجهاز البوليسي القمعي بالتدخل دون هوادة، ولكي ينوع الأساليب مول بلطجية منحرفين ومسجونين لضرب الثوار وترعيبهم، فهل تراجع الثوار؟ لا بل حمي الوطيس في ميدان التحرير على صوت "ارحل" بجميع اللغات حتى باللغة الهيروغليفة الفرعونية. في تونس كما في مصر كما في جميع الدول، التي عرفت وتعرف حراكا شعبيا لتغيير النظام، هناك دروس سوسيوسياسية، أبرزها أن حمل لافتة التغيير لا ينهض بها الشعب كله، بل تتصدى لها طليعة شابة، تبدأ بالمآت وتنتهي بالملايين، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر ثورة مصر، فحينما دعا شباب الفايسبوك إلى الخروج يوم 25 يناير 2011 قدر العدد بالمآت، لكن سرعان ما تحول العدد إلى ملايين بلغ في أقصى التقديرات ثمانية ملايين، عدد مهم، و إذا ما قارناه بعدد السكان، فإنه لا يصل إلى عشر ساكنة مصر التي تتجاوز 80 مليونا، لكن حينما ظهر هامان مصر عمر سليمان، وهو يزف بوجه عبوس تنحي مبارك، خرج الشعب جله إلى الساحات والشوارع فرحا بنشوة النصر، شاكرا رجال الثورة وشبابها، مترحما على شهدائها الذين صنعوا بدمائهم حلما ما كان في الحسبان، بل أكثر من ذلك حتى الفنانين وبعض الواعظين والوصوليين الذين كانوا في صف مبارك، غيروا جلدهم وبدأوا يصححوا كلامهم ،ويفسرون أسباب امتناعهم عن الانخراط في الثورة لكن هيهات هيهات... وكم هي فرحة المصري يوم السبت 19 مارس 2011 وهو يتوجه إلى صناديق الاقتراع، ليصوت على الدستور الجديد بنعم أو لا، دون رقيب أو حسيب، منتصب القامة منسجما مع عقله وقلبه وكأن الثورة قد أوقفت ظهر المصري بعدما كان ردحا من الزمان مقوسا مغلوبا على أمره...ثم يرى بأم عينيه التي "يا ما" دمعت من شدة الظلم، مبارك وزبانيته يقدمون إلى المحكمة في مشهد لا يمكن إلا أن يجعلنا نقف وقفة إكبار وإجلال للشعب المصري العظيم الذي حق لنا أن ننعته الآن بأم الدنيا. إن رياح التغيير قد بدأت تقتلع الأشجار الفاسدة، بأيدي الشعوب الطرية النقية، فهاهي اليمن تتحرك والبحرين وليبيا وسوريا والمغرب....إنها رياح الاستقلال الحقيقي، الذي سيجعل للشعب الكلمة الفيصل لا لشرذمة من الخانعين المتنفذين، وسيدشن لوحدة عربية حلم بها أجدادنا المقاومين وأقطاب الحركات الوطنية أثناء مدافعتهم للاستعمار.