إذا ما سلّمنا بأنّ مصطلح الجمهورية لا يستوفي شروطه إلا إذا توفّرت فيه خاصيّة ذلك النظام الذي يحكم بلادا ما ويدير دواليب دولتها انطلاقا من إرادة ورغبة سكّانها، فهل يمكن إطلاق اسم الجمهوريّة على بلد يحكمه العامل الوراثي أو الشرعيّة الثوريّة والتاريخيّة التي تستمد بقاءها وقوّتها من المؤسسات العسكريّة والأمنيّة أو من شرعيّة الإنقلابات والحركات التصحيحيّة.. تلك تساؤلات مشروعة لم تطرح من فراغ بل فرضت نفسها حين فرض نفسه الربيع العربي وخاصّة مع صعود شخصيّة مثل الدكتور المنصف المرزوقي إلى الحكم ليصبح بذلك أول أو ثاني أو ثالث أو ربما حتى رابع رئيس للجمهوريّة التونسيّة، فالرجل القادم لتوّه من ساحات النضال لم يستغل فرصة تواجده في الرئاسة لينفي صفة الجمهوريّة عن مرحلة حكم بورقيبة وبن علي لأنّه بكّر بذلك، فهو نفسه من ابتدع قديما كلمة الجملوكيّة "وفي رواية ابتدعها سعد الدين إبراهيم" عندما كان بن علي راعي الوطن يحكم قبضته على تونس منتصبا فوق جماجم رعيّته، لذلك لا يمكن اتهام المرزوقي بمحاولة انتزاع السبق واحتكار صفة أول رئيس للجمهوريّة التونسيّة في تاريخها لأنّ الرجل سبق وأعلن أنّ النظام في تونس جملوكيّا لا يمت للجمهوريّة بصلة وشدّد على ذلك في مناسبات عدّة، ومن الإجحاف اتهامه بمحاولة الاحتكار، كما لا يمكن اعتبار أنّه يعاني من شراهة مفرطة للحضور في صفحات التاريخ بشكل منفرد وعلى حساب الآخرين. إذا اشترطنا استيفاء جميع العناصر والخصائص التي تسمح بإطلاق مصطلح الجمهوريّة على طبيعة الحكم وشدّدنا عليه فإنّه يصعب إسقاط هذا المصطلح على مرحلة بورقيبة ومرحلة بن علي التي تلتها وكمّلتها لا بل وأجهزت على فلول الأمل وفُتاة الجمهورية المتفلت من قبضة "المجاهد الأكبر"،وبإطلالة بسيطة على حقبة الحاكمين سوف نُوَاجَه بإخلالات مسقطة لمعاني الجمهوريّة، فمرحلة بورقيبة كانت أقرب إلى الحلول منها إلى الحكم ، لأنّ الزعيم حلّ في تونس وتونس حلّت في الزعيم حتى أنّ بعض وزرائه صرّحوا بأنّه كان يستغرب وجود معارضين له، ولا هو صدّق ولا ذهنه استوعب أنّ في تونس من لا يرضى بحكمه، وكان لا يؤمن بالاستفتاءات واستشارات الشعب حول شخصه لقناعة منه أنّ المسلّمات لا تخضع للرأي، وأنّ استشارة شعب في حكم زعيم يعشقه إلى حدّ الجنون ومستعد أن يفنى من أجله عن بكرة أبيه يعدّ ضربا من ضروب العبث ومضيعة لجهد ووقت عجلة الإنتاج الأولى بهما. أمّا نظام بن علي فليس أسهل من كشف كوارثه إبّان حكمه فما بالك اليوم وقد زالت كل المساحيق وتكشّفت الهوّة السحيقة بين الجمهوريّة في معانيها الساميّة وبين المُلكيّة في أبشع صورها، فحاشية الجنرال كانت تملك وتعلم يقينا أنّ ملكها زائل غير ثابت عناصر الفناء فيه اخصب بكثير من عناصر البقاء يستند على الغشّ والتمويه "والهف"، الشيء الذي جعلها لا تحافظ على ثروات البلاد لتنهبها على التراخي ولا هي مارست النهب المنظم إنّما لجأت لمنهجيّة النهب المدمر الذي يسابق الزمن والذي يغتاظ من أيّة مصلحة في يد العامّة ليس له فيها حظ. نكون قد قدّمنا خدمة مجانيّة في غير موضعها إذا ما أطلقنا صفة الجمهوريّة على حكم أولئك الذين نصّبوا أنفسهم وتحكّموا دون أن يأخذوا رأي المحكومين وحكموا بأحكامهم وتحاكموا في أمر الشعوب إلى أنفسهم وسنّوا قوانين هم مصادرها وأسّسوا مجالس هم روّادها وجعلوا شرعيّتها من شرعيّتهم وكانوا قضاة فوق القضاء كما كانوا قضاء مستعجلا على شعوبهم، هل كان مئات الشهداء وآلاف المضطهدين وملايين المظلومين ضحايا للجمهوريّة أم ضحايا لأنظمة مخضرمة يتجاذبها الفساد والإفساد لم يستقر لها الخبراء على مسميّات تليق بما اقترفت، هل نعمد إلى خليط من الإجرام والقتل والنهب والانقلابات والتصفيات الجسديّة والخيانة والقوانين الجائرة والأحكام الموجّهة والقرارات الفردية الصادرة تحت مفعول النرجسية والنوايا المبيّتة والسّياسات المثمونة .. فنرشّها بمزيل للروائح ثم نسربلها برداء الجمهورية، هل تضطرنا مصلحة البلاد العليا أن نحبس عقولنا ونغمض أعيننا ثم نسمى ونمرّ.. يبدو أنّ كلا الأمرين مرّ..!