جرت العادة بعد كل استحقاق انتخابي أن يصرف المحللون أنظارهم نحو الأحزاب التي كسبت والتي أخفقت، لأجل تقديم قراءات سياسية في مبررات الفوز أو السقوط، والتحالفات الممكنة بين الفرقاء السياسيين. وفي المقابل، لا يحظى المقاطعون للانتخابات سوى بإشارات عابرة، لا تستوفيهم بالقطع حقهم من الاهتمام باعتبارهم الفائز الأكبر قاعدة، في كل الاستحقاقات العشرة التي مرت على المغرب. وحسب جريدة " المساء " أطلق مصطلح «حزب الكنبة» في الأصل بمصر على ملايين المواطنين، الذين يكتفون على مدى سنوات طويلة بالجلوس بالبيت أمام شاشات التلفزيون غالبا للتفرج والانتقاد، بدل الانخراط في معمعان الحياة السياسية. وترسخ حضور هذه الشريحة الاجتماعية كانعكاس لتردي الواقع السياسي في البلاد على الحياة العامة، سواء كان ذلك في البيت أو بالمدرسة أو العمل، ما نتج عنه ازدياد تقهقر الفرد واختياره الانطواء على نفسه، والاكتفاء بالجلوس على الكنبة والمراقبة، وترك «الأب/النظام» حرا طليقا يسير بالبلاد إلى حيث وكيفما يشاء، بينما أصبحت المواطَنة وممارسة حقوقها وواجباتها ضمن آخرأولويات المواطن صاحب الكنبة، التي تعني عند المصريين الأريكة المُنَجَّدة الوثيرة التي تتسع لأكثر من جالس، وترادف في المغرب من حيث الشكل «السّدّاري». ومن مصر انتقل المصطلح إلى بلدنا في السنين الأخيرة، فتمغرب بالضرورة وأصبحت الظاهرة تحمل اسم «حزب السداري»، ويطلق على الكتلة الناخبة «النائمة»، المقاطِعة للنشاطات السياسية وضمنها الانتخابات. ويَجمع المصطلح تحت يافطته مغربيا، خليطا متنوعا من المواطنين المقاطعين للعمل السياسي ضمن شروط اللعبة السياسية السائدة، من منطلقات مختلفة ولمبررات شتى. مقاطعة دائمة مقلقة تذهب أرقام وزارة الداخلية إلى أن عدد المسجلين على القوائم الانتخابية في المغرب بلغ بالضبط 15,702,592 ناخبا، أغلبهم إناث (55%)، وشباب بين 18 و44 سنة (53%). ويعني ذلك أن أعداد المصرح لهم بالمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية تقل عن نصف السكان البالغين حوالي 34 مليون نسمة. وضمن الكتلة الناخبة المذكورة ظل التفاوت في نسب المشاركة بين انتخابات وأخرى السمة الأساس، لكن ضمن ثابت يتمثل في نسبة تقل عادة عن 50% من المسجلين. وتأسيسا على ذلك، فإنه عندما تصرح وزارة الداخلية أن نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة بلغت 43%، فمعناه بالأرقام أن أكثر قليلا من 6 ملايين و752 ألف ناخب فقط، هم الذين عبروا عن أصواتهم الجمعة الماضي، بينما قاطع 57%من الناخبين (حوالي 8,950,477 مسجل) صناديق الاقتراع. ورغم تدني نسبة المشاركة هذه المعلن عنها رسميا، فإن أصواتا كثيرة شككت حتى في صحتها، إذ تراها أدنى من ذلك بكثير وفي حدود 26% من الناخبين المسجلين في تقدير جماعة العدل والإحسان مثلا، بينما يراها حزب النهج في حدود 20 % فقط. لكن، إذا كانت هذه المقاطعة الدائمة تطرح بالمنطق أكثر من سؤال على صلة بشرعية المجالس المنتخبة نفسها، فإنها تقتضي قبل ذلك مساءلة الأسباب التي تدفع ملايين المغاربة، بمختلف مشاربهم (يقدرهم البعض بين 10 و11 مليون، وحتى ب21 مليونا!) إلى هجر الانتخابات. وطبعا، كلما دار الحديث عن المقاطعة التي ترعاها مؤسسات سياسية، تتجه الأنظار نحو كل من جماعة العدل والإحسان شبه المحظورة من جهة، وحزب النهج الديمقراطي، الذي سمح له هذه السنة، ولأول مرة، بالقيام بحملة انتخابية موضوعها الوحيد الدعوة إلى مقاطعة استحقاق 7 أكتوبر. يمكن النظر إلى هذه الكتلة التي لا جامع بينها سوى موقف مقاطعة الانتخابات، على الأقل ضمن زاويتين كبيرتين اثنتين: المقاطعون المؤطرون سياسيا داخل تنظيمات، والذين تُبني مواقفهم بالتالي على مشروعات سياسية من جهة، ومن جهة أخرى، المقاطعون العفويون من أتباع «حزب السداري»… دعوات المقاطعة المنظمة في تحليله السياسي الصادر في العدد الأخير من النسخة الإلكترونية الحاملة لاسمه، يعتبر حزب النهج اليساري الراديكالي أن الانتخابات «لا مصداقية شعبية لها، ولا للمؤسسات التي ستنبثق عنها. وأن المشاركة هي مساهمة في إطالة عمر الاستبداد، وتنكر لروح حركة 20 فبراير التي ساهمت بالرقي بدرجات بالوعي الشعبي حول طبيعة النظام، ومكنته من ترسيخ القناعة بأنه نظام مستبد، يركز كل السلطة الاقتصادية والسياسية في يد الملك». وبالتالي يرى «النهج» في موقف المقاطعة واحدا من أسلحته السياسية، إذ تذهب تحليلاته إلى أنه «كلما ارتفعت نسبة المقاطعة، كلما انحدرت شعبية النظام وزادت أزمته السياسية وأصبح معزولا لا يستطيع حتى تمثيل نفسه». ولا تبتعد جماعة العدل والإحسان في تحليلها عن مواقف النهج الديمقراطي كثيرا رغم اختلاف المنطلقات الإيديولوجية، إذ تذهب إلى أن «فشل كل المحطات الانتخابية ليس إلا انعكاسا للخلل العميق في بنية النظام، المبنية على الاستبداد والفساد، وإن أي تغيير لا يمس هذه البنية في اتجاه إحقاق سيادة الإرادة الشعبية والتمكين الحقيقي للحرية والكرامة والعدل، لن يفيد إلا في إطالة عمر الاستبداد والفساد وتعميق معاناة الشعب المغربي». وتسجل الجماعة في بيانها الصادر عقب إعلان نتائج انتخابات 7 أكتوبر أن»التلاعب بنسبة المشاركة يفضحه حصر الناخبين في عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية الفاسدة، بتحديدهم في حوالي 16 مليون مسجل عوض اعتماد الكتلة الانتخابية الحقيقية المكونة من حوالي 26 مليونا من البالغين سن التصويت». وفي سياق ذلك، تؤكد الجماعة «أن الشعب المغربي بهذه المقاطعة الكاسحة خطا خطوة أخرى مهمة في مسار التأسيس للتغيير العميق، ووقّع على فشل آخر ذريعة للخيار الرسمي الاستبدادي في جوهره والمتستر برداء الديمقراطية الصورية المزيفة». لكن القول بأن 11 (أو 21) مليون مواطن مغربي قاطعوا الانتخابات تماهيا مع مواقف «النهج» و»الجماعة»، كما يزعم كلا التنظيمين عقب كل انتخابات، هو قول مبالغ فيه. فالواضح أن الغالبية الساحقة من المقاطعين إما تبني موقفها على تحليل شخصي، أو تنأى بنفسها عن المشاركة في الاقتراع، لأنها ترى أن نتائج الانتخابات لن تتأثر سواء بمشاركتهم أو بعدمها. «حزب السداري» الفايسبوكي وفي هذا السياق، عجت الشبكة الزرقاء خلال الأسابيع الأخيرة بالكثير من المقالات والتدوينات المنتقدة للعملية الانتخابية والداعية إلى تجاهلها. بعضها دبجه مدونون مغمورون وبعضها الآخر نشره كتاب رأي لهم بعض التأثير على العالم الافتراضي، ودعوا من خلالها إلى مقاطعة الانتخابات لمبررات ساقوها. ففي مقال رأي نشرته الصحفية والمدونة مايسة ناجي سلامة تحت عنوان «لماذا قررت مقاطعة الانتخابات؟»، تسوق كثيرا من المبررات المتداخلة لتبرير موقفها. ومن أبرزها نسجل مثلا أنها قررت مقاطعة الانتخابات، «لأنه بنظرة واحدة الآن ستجد أغلب السياسيين يقضون عطلهم بالخارج، أو على الأقل أرسلوا زوجاتهم وأولادهم لجزر المالديڤ والباهاماس وهايتي [هايتي بلد منكوبة، لعلها تقصد تاهيتي]»، وأنها ستقاطع الانتخابات «لأن المسؤولين على السياحة المغربية يصطافون بالخارج بأموال إنعاش السياحة الداخلية، ولأن المسؤولين على الصحة المغربية يعالجون بالخارج بينما ولاد البلاد ينتظرون لثلاثة أشهر المواعيد الطبية، ولأن المسؤولين على التعليم يدرسون أولادهم بالبعثات الأجنبية وبالجامعات بالخارجية، بينما وصلت إلى الحضيض حالة المدرسة العمومية، ولأن المسؤولين على السكن يعيشون بالڤيلات الوظيفية المجهزة بالأواني الفضية وبأراضي خدام الدولة من الهكتارات المجانية…» الخ. وأضافت مايسة قائلة: «قررت مقاطعة الانتخابات، لأن الأحزاب في المغرب أصابها العتة وتم تمييعها لدرجة الغثيان. فالاستقلال على رأسه شباط الذي خرج سابقا من الحكومة طمعا في إسقاطها والعودة إليها على التراكتور. اليوم انقلب 180 درجة وأصبح يلعق حذاء العدالة والتنمية. العدالة والتنمية الذي كان يرى في شباط سفيها يجب أن يخرج من الساحة السياسية لتعتدل، انقلب اليوم 180 درجة ورحب بالتحالف معه. الاتحاد الاشتراكي تحول إلى ملحقة بامية، والبام إلى لوبي معاد للإسلام…». وفي سياق متصل، علق كاتب عمود بعيد إعلان النتائج قائلا على صفحته الفايسبوكية بسخرية سوداء: «عاجل.. باعتباري عضوا في حزب السداري (الكنبة) أعلن أن حزبنا احتل الرتبة الأولى في انتخابات 7 اكتوبر…». غير أن محللين سياسيين لا يرون في مناضلي «الفايسبوك» قوة يعتد بها، سواء لجهة الدعوة إلى التصويت لطرف معين، أو إلى مقاطعة الاقتراع من الأصل. فأكثرية أولئك الملايين من الناشطين الافتراضيين غير مسجلين أصلا في اللوائح الانتخابية، بمعنى أنهم يوجدون خارج العملية الانتخابية لأسباب لا علاقة لها بالموقف السياسي. ولعل الدليل القاطع على ذلك أن حملات التعاطف الواسعة مع فيدرالية اليسار الديمقراطي على «الفايسبوك»، لم تترجم أصواتا لفائدتها في صناديق الاقتراع!