رواندا بلد إفريقي ظل تحت وطأة الاستعمار الأوروبي لمدة تفوق ال20 سنة . قبل أن يتركها الاستعمار لسكانها الأصليين، لكن هذا البلد الإفريقي سيتبدل الاستعمار بحرب أهلية ما لبثت أن تحولت لإبادة جماعية دمرت البلاد وقضت على الاقتصاد والبنية التحتية والصحة والتعليم.. عائلات مشردة هنا وهناك والخراب يعم كل شيء».. بهذه الكلمات تبدأ حكاية رواندا في التعافي من آثار الحرب الأهلية المدمرة، كما يرويها موقع « Rwandan Stories». اليوم وبعد 22 عاما من هذا الانهيار أصبحت رواندا مثالا يحتذى به في تجارب التنمية والنهوض لدول العام الثالث، على جميع الأصعدة حيث تحسن الاقتصاد، و شيدت البنية التحتية، و حوربت الأمية، و تحسن الخدمات الصحية. حققت رواندا في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم وتمكين المرأة، إنجازات عجزت العديد من الدول النامية الأخرى عن بلوغها؛ حتى أصبحت في عام 2016 أول الدول الأفريقية جذبا لرجال الأعمال.. وفقا لتقرير السوق الأفريقية المشتركة. كانت رواندا مجرد بقايا دولة.. هكذا يبدأ الحكاية رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في مقاله بصيحفة الجارديان الذي نشر عام 2014. حرب أهلية ثم إبادة جماعية وقعت ما بين العامين 1990 و1994 كانت نتيجتها مقتل أكثر من مليون مواطن، وتم إجلاء ملايين آخريين من منازلهم لينضموا إلى قائمة طويلة من النازحين. كانت الإبادة الجماعية نتيجة لصراع طويل على السلطة بين قبائل الهوتو والتوتسي بدأ منذ استقلال رواندا عن الاحتلال البلجيكي عام 1962. وعندما حصلت رواندا على استقلالها في الستينيات كانت قبائل الهوتو تمسك جيدا بزمام السلطة، وتقرر الانتقام من قبائل التوتسي التي هرب كثير منها خارج البلاد. حتى جاء العام 1994 عندما قتل رئيس رواندا، لوران كابيلا، في هجوم صاروخي على طائرة، اتهمت قبائل التوتسي المعادية للحكومة بتدبير الحادث وبدأت عمليات إبادة منظمة، قُتل فيها 800 ألف مواطن في 100 يوم فقط. كان القتل الممنهج يمارس في حق قبائل التوتسي التي تعيش داخل رواندا.. لكن النظام والتسليح الذي تمتعت به الجبهة الوطنية التي شكلها أفراد التوتسي المتمردون خارج حدود البلاد، حسمت القضية لصالح هذه القبيلة، التي تمكنت من السيطرة على البلاد يوليو 1994. سيطرة التوتسي على البلاد بقيادة زعيم الجبهة الوطنية بول كاجامي الذي تولى الرئاسة فيما بعد عام 2000. سلمت الجبهة الوطنية الرئاسة إلى باستور بيزيمونجو، وبعدها بدأت الحكومة بملاحقة قادة الهوتو المتورطين في التحريض على الإبادة، حتى أنها توغلت في جمورية الكونغو لملاحقة الهاربين منهم. لم تنته الأزمة عند هذا الحد، فالبلاد كانت دمرت بالكامل، المزارع أحرقت، والمدارس والمحاكم والمستشفيات دمرت في عمليات الإبادة والحكومة تمارس القتل في حق المتورطين في الإبادة؛ حتى جاء العام 2000 عندما أقال زعيم الجبهة الوطنية «كاجامي» الرئيس الرواندي السابق، ليتسلم السلطة مكانه ويبدأ سياسة إصلاحية. في التقاليد الرواندية كان مجلس الحكماء أو ال«جاكاكا» هو شيء أشبه بالمجالس العرفية التي تعقد لحل المشاكل بين القبائل، ولأن القانون الرواندي كان ضعيفا للغاية ولم يكن ليحل مشكلة تورط ملايين من المواطنين في الإبادة الجماعية دون إراقة المزيد من الدماء؛ كان الالتجاء لهذه المجالس أول خطوة في المصالحة والتي قضت بأن يتم العفو عن المتهم في مقابل الإقرار بالذنب والمساعدة في إلقاء القبض على القيادات المشعلة لهذه الفتنة. وكانت الخطوة الثانية وهي وضع الدستور الرواندي الذي ينص على المصالحة الوطنية وإعادة تأهيل المتورطين في الإبادة من خلال البرامج التعليمية والتثقيفية، والقوانين الصارمة التي جعلت التلفظ بأي خطاب عنصري جريمة لا يُتهاون فيها. خطوة هامة أخرى لجأت إليها الحكومة وهي إعادة تقسيم المحافظات؛ فقبل ذلك كانت كل قبيلة تسيطر على مجموعة من المحافظات، ثم وضعت الحكومة ضمن برنامجها إعادة التقسيم وتوزيع السكان حتى تعزز قيم المواطنة وإلغاء فكرة القبلية. لم تكن القوانين ولا جلسات المصالحة لتجدي نفعا بدون الارتقاء بالتعليم أو بحملات توعوية تستأصل العنصرية من العقول. كان نظام التعليم قبل الإبادة يقوم على الفصل العنصري وتقسيم الفصول بحسب القبيلة والطبقة الاجتماعية. المدارس كانت هدفا للمتورطين في الإبادة، فقتل المدرسون والأطفال ونهبت محتويات المدارس، وتسرب معظم الأطفال من التعليم، والباقون منهم نالوا تعليما متواضعا للغاية في مخيمات اللاجئين، كما تحكي آنا أوبورا في مقالها بموقع «Fm Review». كل من الآباء والحكومة كانوا يرون الحاجة شديدة لاستعادة النظام التعليمي؛ فوضعت الحكومة ميزانية خاصة للتعليم لإعادة المتسربين وتوفير تعليم جيد لأشد الأسر فقرا والحد من العبء المادي على أولياء الأمور. لكن رواندا تحديدا كانت تحتاج أكثر من ذلك، فوضعت المناهج لتحارب العنصرية ولتغزر في عقول الأطفال فكرة تقبل الآخر المختلف عرقيا ودينيا؛ كان يمنع في المدارس انتساب الطفل لقبيلته أو حتى يذكر اسمها. كانت الإبادة الجماعية المنظمة؛ سببا كافيا جدا لانهيار الاقتصاد وهروب رؤوس الأموال، وتدمير الزراعة والسياحة اللذان يشكلان أساس الاقتصاد الرواندي. الخطوة الأولى لإعادة بناء الاقتصاد كانت إعادة المواطنين الهاربين من رواندا ليشكلوا قاعدة القوى العاملة. وعادت الحكومة للتركيز على ثروات البلاد الزراعية والسياحية والاستفادة منها وتوجيه الاستثمار إليها حتى أصبحت تمثل 70% من القوة الاقتصادية؛ مع الجدية في محاربة الفساد في الوقت نفسه. وفي تقرير للسوق الأفريقية المشتركة «الكوميسا» في يوليو 2016 فإن رواندا أصبحت واحدة من الدول الاقتصادية الرائدة في أفريقيا بسبب اعتمادها على الزراعة بشكل كبير، وتوفر القوى العاملة. وبالنسبة لرجال الأعمال فرواندا أصبحت واحدة من أفضل الدول الاستثمارية في أفريقيا، والأكثر أمنا وجذبا لرواد الأعمال. وفقا للكوميسا فقد حققت رواندا إجمالي ناتج محلي بقيمة 1.7 مليار دولار في الخمسة أعوام السابقة. في تلك السنوات العشرين تضاعف متوسط دخل الفرد ثلاثة مرات بسبب الانتعاش الاقتصادي. وكان المأخذ الوحيد على الاقتصاد الرواندي هو عدم اتجاه الدولة للاستثمار في الصناعات المعتمدة بشكل كبير على التكنولوجيا. انهيار السياحة كان جزءا من الانهيار الذي لحق برواند، في بلد يعتمد بشكل رئيسي على السياحة بجوه المعتدل ووفرة الحياة البرية. كلمة «رواندا» باللغة المحلية تعني أرض الألف تل؛ فثروات هذا البلد الصغير تجتمع في مناظرها الطبيعية ومرتفعاتها الخضراء التي تعانق نهر النيل وتنتشر حولهما أنواع من الكائنات البرية المهددة بالانقراض وغير الموجودة في دول أفريقية أخرى، كل هذه الأسباب جعلت السياحة الطبيعية ثاني أهم مصدر دخل لرواندا بعد الزراعة. في نهضتها السياحية اعتمدت رواندا على 3 مباديء لجذب السياحة وهي: استغلال الثروات الطبيعية والتوسع في الحدائق العامة وجذب الاستثمار. إلغاء التأشيرة للأجانب سواء أفارقة أو أوروبيين أو آسيويين أو غيرهم. نظافة المدن وإعادة بناءها على الطراز الحديث حتى حازت العاصمة كيجالي لقب أنظف عاصمة أفريقية من الأممالمتحدة. ومع مجيء العام 2014 أصبحت رواندا تستقبل مليون سائح سنويا، بعد أن كانت بلدا طاردا لأبناءه فضلا عن السياح. كان الرجل من قبائل الهوتو يقتل زوجته المنتسبة لقبيلة التوتسي خلال الإبادة الجماعية، بتحريض من الحكومة وخوفا من أن يقتل هو نفسه إذا لم ينفذ الأوامر. واحتجزت خلال الأحداث ما بين 150 ألف امرأة و250 ألف امرأة من التوتسي لاستغلالهن جنسيا، وفقا لتقرير «بي بي سي». واتهم في هذا الحادث رجال من قبائل الهوتو والقوات الفرنسية التي تدخلت بدعوى إنهاء الأزمة. لكن رواندا الآن وبعد 20 عاما لم تعد كرواندا السابقة التي عرفت أسرع عمليات الإبادة على مر التاريخ. فوفقا لتقرير صادر عن الأممالمتحدة تحتل رواندا المركز الأول على مستوى العالم في التمثيل النسائي للبرلمان. فمع مجيء العام 2008 كانت نسبة المرأة في البرلمان الرواندي هي 49% متفوقة على كبرى الدول الأوروبية في حقوق المرأة؛ فكانت السويد بنسبة 47% وفنلندا بنسبة 41.5 %. حققت رواندا في مجال تمكين المرأة إنجازات لم تشهدها حتى قبل سنوات الإبادة؛ فعندما جاء العام 2013 ارتفعت نسبة النساء في البرلمان الرواندي إلى 64% بعد أن كانت نسبتهن 17 % في عام 1990 أي قبل الإبادة بأربعة أعوام؛ وفقا لموقع « World Bank Open Data» الخاص بالإحصائيات العالمية.