الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرازي .. معجزة الطب عبر الأجيال
نشر في نون بريس يوم 01 - 09 - 2018

لعله من العجيب أن يُذكر إنسان ما على أنه صورة من صور الحضارة؛ فقد تعودنا على وصف الحضارة على أنها نتاج أعمال كثيرة وأعداد كثر من البشر برعوا سويًا في الإبداع في مجال من مجالات الحياة: كالطب أو الهندسة أو المعمار أو غير ذلك..
ولكن الواقع أن الحضارة الإسلامية صنعت رجالاً ونساءً كانوا بحق صورًا رائعة من صور الحضارة.. بحيث تلتصق بهم كلمة الحضارة.. فإذا ذكروا فهذه هي الحضارة، وإن درست حياتهم فهذه دراسة للحضارة!!
وهذه عظمة الإسلام ولا شك.. الذي نقل البشر نقلة هائلة، حتى جعل بعض أتباعه يمثلون الحضارة بكل أبعادها.. ومن هؤلاء كان الرازي رحمه الله.. فهو لم يكن طبيبًا فحسب، ولا معلمًا فقط.. ولكنه أبدع كذلك في مجالات الأخلاق والقيم والدين.. كما أبدع ولا شك في ذلك في مجال الإنسانية.. حتى أصبح علمًا من أعلام الفضيلة كما كان علمًا من أعلام الطب.. لا شك أن هذا الرجل العظيم من أعظم صور الحضارة الإسلامية..
من هو "الرازي".. معجزة الطب عبر الأجيال؟!
إنه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي.. وقد ولد في مدينة الري, وإليها نُسِب.. ومدينة الري تقع على بعد ستة كيلومترات جنوب شرقي طهران, وكان ميلاده في سنة 250ه (864م)، وكان منذ طفولته محبًا للعلم والعلماء، فدرس في بلدته "الري" العلوم الشرعية والطبية والفلسفية، ولكن هذا لم يُشْبع نَهَمَه لطلب العلم؛ فلم تكن مدينة الري على اتساعها وكثرة علمائها بالمدينة التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت.. ولذلك يمَّم الرازي وجهه شطر عاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت, وهي "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية، فذهب إليها في شبه بعثة علمية مكثفة، تعلم فيها علومًا كثيرة، ولكنه ركز اهتمامه في الأساس على الطب، وكان أستاذه الأول في هذا المجال هو "علي بن زين الطبري"، وهو صاحب أول موسوعة طبية عالمية (فردوس الحكمة)..
كما اهتمَّ أيضًا بالعلوم التي لها علاقة بالطب كعلم الكيمياء والأعشاب، وكذلك علم الفلسفة لكونه يحوي أراء الكثير من الفلاسفة اليونان والذين كانوا يتكلمون في الطب أيضًا.. وكان أستاذه الأول في الفلسفة هو "البلخي" وهكذا أنفق الرازي رحمه الله عدة سنوات من عمره في تعلم كل ما يقع تحت يديه من أمور الطب، حتى تفوق في هذا المجال تفوقًا ملموسًا.. ثم عاد الرازي رحمه الله بعد هذا التميز إلى الري, فتقلد منصب مدير مستشفى مدينة الري، وكان من المستشفيات المتقدمة في الإسلام، وذاعت شهرته، ونجح في علاج الكثير من الحالات المستعصية في زمانه، وسمع بأمره الكبير والصغير والقريب والبعيد.. حتى سمع به "عضد الدولة بن بويه" كبير الوزراء في الدولة العباسية, فاستقدمه إلى بغداد ليتولى منصب رئيس الأطباء في المستشفى العضدي، وهو أكبر مستشفى في العالم في ذلك الوقت، وكان يعمل به خمسون طبيبًا.. والحق أنه لم يكن مستشفىً فقط, بل كان جامعة علمية, وكليَّة للطب على أعلى مستوى.. وأصبح الرازي رحمه الله مرجعية علمية لا مثيل لها ليس في بغداد فقط، وإنما في العالم كله.. وليس على مدى سنوات معدودة.. ولكن لقرون متتالية!!
إنه الرازي رحمه الله.. معجزة الطب عبر الأجيال!!
ولعله من المهم جدًا أن نقف وقفة ونتساءل كيف وصل الرازي رحمه الله إلى هذا المجد.. وإلى هذه المكانة؟
لا بدَّ أن نعلم أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن التفوق لا يكون إلا بجهد وتعب وبذل وتضحية.. كما أن الإبداع لا يكون عشوائيًا أبدًا.. إنما يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة.. وهكذا كانت حياة الرازي رحمه الله..
لقد بحث الرازي رحمه الله عن العلم في كل مصادره، واجتهد قدر استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات، ثم أتبع ذلك بتفكير عميق وتجارب متعددة ودراسة متأنية.. حتى بدأ يعدِّل في النظريات التي يقرؤها.. وأخذ ينقد ويحلل.. ثم وصل إلى الاختراع والإبداع..
لقد انتشر في زمان الرازي رحمه الله الطب اليوناني والفارسي والهندي والمصري نتيجة اجتهاد العلماء في ترجمة كتب تلك الأمم، فقرأها الرازي جميعًا، لكنه لم يكتف بالقراءة بل سلك مسلكًا رائعًا من أرقى مسالك العلم وهو لملاحظة والتجربة والاستنتاج..
لقد كان الطب اليوناني هو أهم طب في تلك الفترة، ولكنه كان يعتمد في الأساس على النظريات غير المجرَّبة.. وكان كل أطباء اليونان يعتمدون هذه الطريقة حتى عرفوا بفلاسفة الطب، فهم لم يُخضعوا نظرياتهم لواقع الحياة إلا قليلاً، ولا يُستثنى من ذلك كل أطباء اليونان حتى العمالقة منهم أمثال جالينوس وأبقراط!! ولكن الرازي رحمه الله قال كلمته المشهورة التي تعتبر الآن قانونًا من قوانين العلم بصفة عامة, والطب بصفة خاصة.. قال: "عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية تأييدًا لمشاهير العلماء..", فهو يذكر أنه ليس لعالم مشهور أو غير مشهور أن يقرر نظرية تتعارض مع المشاهدة الفعلية والتجربة الحقيقية والواقعة الحادثة، بل تُقَدَّم الملاحظة والتجربة؛ وبذلك يُبْنَى الاستنتاج على ضوء الحقائق لا الافتراضات الجدلية..
ما أروعه حقًا من مبدأ، وما أبدعها من طريقة!!..
ولذلك نجد أن الرازي كثيرًا ما انتقد آراء العلماء السابقين نتيجة تجاربه المتكررة، بل إنه ألَّف كتابًا خصِّيصًا للرد على جالينوس أعظم أطباء اليونان وسمَّى الكتاب "الشكوك على جالينوس", وذكر في هذا الكتاب الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج..
وكان الرازي رحمه الله حريصًا على سؤال المريض عن كل ما يتعلق بالمرض تقريبًا من قريب أو بعيد وكان يقول: "إن الطبيب ينبغي ألا يدع مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن يقوله عن علته"، وهذه أول خطوة في التعامل مع المريض في الطب الحديث، وهي معرفة تاريخ المرض والأمور المحتملة التي قد تكون سبَّبت المرض، ثم يقوم الرازي رحمه الله بالكشف على المريض وقياس الحرارة والنبض، وإذا استلزم الأمر أن يدخل المريض المستشفى فإنه يضعه تحت الملاحظة الدقيقة المستمرة لتسجيل كل معلومة قد تكون مفيدة في كشف سبب المرض, أو في وصف العلاج.. وقد كان الرازي من الدقة إلى درجة أذهلت من قرأ تعليقاته على الحالات المرضية التي وصفها..
بل إن الرازي وصل إلى ما هو أروع من ذلك حيث أرسى دعائم الطب التجريبي على الحيوانات، فقد كان يجرب بعض الأدوية على القرود فإن أثبتت كفاءة وأمانًا جربها مع الإنسان، وهذا من أروع ما يكون، ومعظم الأدوية الآن لا يمكن إجازتها إلا بتجارب على الحيوانات كما كان يفعل الرازي رحمه الله..
ولقد كان من نتيجة هذا الأسلوب العلمي المتميز للرازي رحمه الله أن وصل إلى الكثير من النتائج المذهلة، وحققها سبقًا علميًا في كثير من الأمور..
فالرازي هو أول مبتكر لخيوط الجراحة، وقد ابتكرها من أمعاء القطة، وقد ظلت تستعمل بعد وفاته لعدة قرون، ولم يتوقف الجراحون عن استعمالها إلا منذ سنوات معدودة في أواخر القرن العشرين عند اختراع أنواع أفضل من الخيوط، وهذه الخيوط هي المعروفة بخيوط أمعاء القط.. "cat gut"..
والرازي رحمه الله هو أول من صنع مراهم الزئبق..
وهو أول من فرق بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني، واستخدام الضغط بالأصابع لإيقاف النزف الوريدي، واستخدم الربط لإيقاف النزيف الشرياني، وهذا عين ما يستخدم الآن!!
وهو أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون..
وهو أول من استخدم الأفيون في علاج حالات السعال الجاف..
وهو أول من أدخل المليِّنات في علم الصيدلة..
وهو أول من اعتبر الحمَّى عرضًا لا مرضًا….
وكان رحمه الله يهتم بالتعليق على وصف البول ودم المريض للخروج منهما بمعلومات تفيده في العلاج..
كما نصح رحمه الله بتجنب الأدوية الكيميائية إذا كانت هناك فرصة للعلاج بالغذاء والأعشاب، وهو عين ما ينصح به الأطباء الآن..
ولم يكن الرازي رحمه الله مبدعًا في فرع واحد من فروع الطب، بل قدم شرحًا مفصلاً للأمراض الباطنية والأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية والعيون والجراحة وغير ذلك..
وكان الرازي رحمه الله ذكيًا في غاية الذكاء، ومما يؤكد ذكاءه وسيلته في اختيار المكان المناسب لإنشاء مستشفى كبير في بغداد، فقد اختار أربعة أماكن تصلح لبناء المستشفى، ثم بدأ في المفاضلة بينها، وذلك بوضع قطعة لحم طازجة في الأماكن الأربعة.. ثم أخذ يتابع تعفُّن القطع الأربع، ثم حدد آخر القطع تعفنًا، واختار المكان الذي وُضعت فيه هذه القطعة لبناء المستشفى؛ لأنه أكثر الأماكن تميزًا بجو صحي، وهواء نقي يساعد على شفاء الأمراض..
ولم يكن الرازي رحمه الله مجرد طبيب يهتم بعلاج المرض، بل كان معلمًا عظيمًا يهتم بنشر العلم وتوريث الخبرة، وكان رحمه لله يدرس تلامذته الطب في المدرسة الطبية العظيمة في المستشفى العضدي ببغداد، وكان يعتمد في تدريسه على المنهجين: العلمي النظري، والتجريبي الإكلينيكي؛ فكان يدرس الكتب الطبية، وبعض المحاضرات، ويدير الحلقات العلمية، وفي ذات الوقت يمر مع طلبته على أسِرَّة المرضى.. يشرح لهم ويعلمهم وينقل لهم خبرته، وكان يُدرِّس لهم الطب في ثلاث سنوات، ويبدأ بالأمور النظرية ثم العملية، تمامًا كما يحدث في كليات الطب الآن، وكان في آخر السنوات الثلاث يعقد امتحانًا لطلبة الطب مكونًا من جزأين: الجزء الأول في التشريح، والثاني في الجانب العملي مع المرضى، ومن كان يفشل في الجانب الأول "التشريح" لا يدخل الامتحان الثاني، وهذا أيضًا ما نمارسه الآن في كليات الطب..
ولم يكن الرازي رحمه الله يكتفي فقط بالتدريس والتعليم والامتحانات لنقل العلم، بل اهتم بجانب آخر لا يقل أهمية عن هذه الجوانب وهو جانب التأليف، فكان رحمه الله مكثرًا من التأليف وتدوين المعلومات وكتابة الكتب الطبية حتى أحصى له ابن النديم في كتابه "الفهرست" 113 كتابًا و28 رسالة، وهذا عدد هائل خاصةً أنها جميعًا في مجال الطب..
ومن أعظم مؤلفات الرازي رحمه الله كتاب "الحاوي في علم التداوي" وهو موسوعة طبية شاملة لكافة المعلومات الطبية المعروفة حتى عصر الرازي، وقد جمع فيه رحمه الله كل الخبرات الإكلينيكية التي عرفها، وكل الحالات المستعصية التي عالجها، وتتجلى في هذا الكتاب مهارة الرازي رحمه الله ودقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة استنتاجه..
وقد ترجم هذا الكتاب إلى أكثر من لغة أوروبية، وطُبع لأول مرة في بريشيا بشمال إيطاليا سنة 891ه (1486م) وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، وكان مطبوعًا في 25 مجلدًا، وقد أعيدت طباعته مرارًا في البندقية بإيطاليا في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي), ويذكر المؤرخ "ماكس مايرهوف" أنه في عام 1500 ميلادية كان هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي, مع عشرات الطبعات لأجزاء منه..
ومن كتبه أيضًا "المنصوري" قد سماه بهذا الاسم نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خراسان، وقد تناول فيه موضوعات طبية متعددة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون، وقد تعمَّد الرازي الاختصار في هذا الكتاب, فجاء في عشرة أجزاء!! لذلك رغب العلماء الأوروبيون في ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة منها اللاتينية والإنجليزية والألمانية والعبرية! وقد تم نشره لأول مرة في ميلانو سنة 1481م ، وظل مرجعًا لأطباء أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي.
ومن أروع كتبه كذلك كتاب "الجدري والحصبة" وفيه يتبين أن الرازي رحمه الله أول من فرق بين الجدري والحصبة، ودوَّن ملاحظات في غاية الأهمية والدقة للتفرقة بين المرضين، وقد أعيدت طباعة هذا الكتاب في أوروبا أربع مرات بين عامي( 903 : 1283ه) (1498 : 1869م)..
ومن كتبه أيضًا كتاب "الأسرار في الكيمياء" والذي بقي مدة طويلة مرجعًا أساسيًّا في الكيمياء في مدارس الشرق والغرب.
ومن كتبه الهامة كذلك كتاب "الطب الروحاني" الذي ذكر فيه أن غايته من الكتاب هو إصلاح أخلاق النفس.. وحضَّ في كتابه هذا على تكريم العقل، وعلى قمع الهوى, ومخالفة الطباع السيئة, وتدريب النفس على ذلك..
وقد تميز الرازي رحمه الله بالأمانة العلمية التامة في كتاباته؛ فكان لا يذكر أمرًا من الأمور اكتشفه غيره إلا أشار إلى اسم المكتشف الأصلي، ولذلك حفلت كتبه بأسماء جالينوس وأبقراط وأرمانسوس وغيرهم، كما ذكر في كتبه المحدثين من الأطباء أمثال يحيى بن ماسويه وحنين بن إسحاق…
وكان الرازي رحمه الله يحض تلامذته على إتباع نهج الكتابة والتأليف، فكان يقول لهم: "إذا جمع الطالب أكبر قدر من الكتب وفهم ما فيها، فإن عليه أن يجعل لنفسه كتابًا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي قرأها".. فهو ينصح كل طلبته أن يسجلوا المعلومات التي يلحظونها في أثناء دراستهم وعلاجهم للمرضى – والتي لم تُذكر في الكتب السابقة – , وبذلك يستفيد اللاحقون بعلمهم وتأليفهم..
ولم يكن الرازي رحمه الله عالمًا فقط، بل كان إنسانًا خلوقًا من الدرجة الأولى، فقد اشتهر بالكرم والسخاء وكان بارًا بأصدقائه ومعارفه، عطوفًا على الفقراء وبخاصة المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله الخاص، ويجري لهم أحيانًا الرواتب الثابتة!!.. وكان يوصي تلامذته أن يكون هدفهم هو إبراء المرضى أكثر من نيل الأجور منهم، ويوصيهم كذلك بأن يكون اهتمامهم بعلاج الفقراء تمامًا كاهتمامهم بعلاج الأمراء والأغنياء.. بل إنه من شدَّة اهتمامه بالفقراء ألف لهم كتابًا خاصًا سماه "طب الفقراء"، وصف فيه الأمراض المختلفة وأعراضها ثم وصف طرق علاجها عن طريق الأغذية والأعشاب الرخيصة بدلاً من الأدوية مرتفعة الثمن أو التراكيب النادرة..
ومن شدة اهتمامه رحمه الله بالأخلاق الحميدة ألف كتابًا خاصًا بهذا الأمر سماه "أخلاق الطبيب" يشرح فيه العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، وبين الطبيب والطبيب، وضمَّنه كذلك بعض النصائح للمرض في تعاملهم مع الأطباء..
هذا.. وقد اعترف القاصي والداني لأبي بكر الرازي رحمه الله بالفضل والمجد والعظمة والعلم والسبق، ولا نقصد بذلك المسلمين فقط، بل اهتم غير المسلمين أيضًا بإنجازات الرازي وابتكاراته؛ فنجد فضلاً عن ترجمة كتبه إلى اللغات الأوروبية وطبعها أكثر من مرة.. نجد إشارات لطيفة وأحداثًا عظيمة تشير إلى أهمية ذلك العالم الجليل، ومن ذلك أن الملك الفرنسي الشهير لويس الحادي عشر (والذي حكم من عام 1461م إلى 1483 م) قد دفع الذهب الغزير لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب "الحاوي" كي يكون مرجعًا لهم إذا أصابه مرض ما، ونجد أن الشاعر الإنجليزي القديم "جوفري تشوسر" قد ذكر الرازي بالمدح في إحدى قصائده المشهورة في كتابه "أقاصيص كونتربري"، ولعله من أوجه الفخار أيضًا أنه رغم تطور العلم وتعدد الفنون إلا أن جامعة بريستون الأمريكية ما زالت تطلق اسم الرازي على جناح من أكبر أجنحتها، كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصبًا تذكاريًا للرازي رحمه الله بالإضافة إلى صورته في شارع سان جيرمان بباريس..
لقد كان الرازي بحق صورة رائعة من صور الحضارة الإسلامية قلما تتكرر في التاريخ، لقد كان طبيبًا وعالمًا ومعلمًا وإنسانًا.. عاش حياته لخدمة الإسلام والعلم والبشرية، ومات عن عمر بلغ ستين عامًا، وكانت وفاته في شعبان 311ه / (نوفمبر 923م)، ولكن يصعب أن نقول إنه مات، فالمرء يكتب له الخلود بقدر ما ينفع الناس، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما ذكر في الحديث الذي رواه الترمذي (وقال: حسن صحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث…" ذكر منها: "..وعلم ينتفع به"..
والحمد لله الذي شرفنا بالإسلام..
مراجع البحث:
الفهرست لابن النديم.
عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
وفيات الأعيان لابن خلكان.
– دراسات وشخصيات في الطب العربي… ماهر عبد القادر
– تاريخ الطب العربي…. التيجاني الماحي
– الرازي الطبيب… خالد حربي
– أبو بكر الرازي، وأثره في الطب… كمال السامرائي
– تطور الفكر العلمي عند المسلمين……. محمد الصادق عفيفي
– الرواد في علم الطب…….. د. علي عبد الله الدفاع
– مواقع الإنترنت: إسلام أون لاين، إسلام ست… وغيرها
أ.د. راغب السرجاني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.