في صمت أسلمت السيدة صفية الحسني الجزائري الروح إلى بارئها، هذه السيدة التي وحّدت أسرتين من أشهر الأسر المناضلة في التاريخ الإسلامي، في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين؛ أسرة الزعيم الجزائري الكبير الأمير عبد القادر الجزائري الحسني، وأسرة الزعيم والقائد المغربي محمد عبد الكريم الخطابي. إنها حفيدة الأمير عبد القادر الجزائري رمز الجزائر المعاصرة الذي قاد ثورة طويلة في مواجهة الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر، قبل أسره ونفيه إلى فرنسا ومنها إلى بلاد الشام حتى توفي فيها سنة 1883 بعد 27 سنة قضاها هناك، ليصبح وجها سياسيا وأدبيا ومصلحا دينيا تنويريا ذا مكانة خاصة، اشتهر في مجالات مختلفة وشكل مرجعا هناك استطاع أن يبطل جذوة فتنة طائفية اشتعلت هناك بين المسلمين والمسيحيين سنة 1860 ليستضيف الآلاف من المسيحيين في بيته الكبير وكذا في زاويته حماية لهم من الاضطهاد. في ظل عَبَق هذه الذكريات وُلدت السيدة صفية سنة 1935 في "قصر دُمر" على مقربة من دمشق في كنف أبيها محمد سعيد بن عبد القادر الجزائري، حيث درست في إحدى مدارس الراهبات الفرانسيسكان هناك، وكان قَدَر صفية أن تكون جسرا للعلاقة مع الأسرة الأخرى، أسرة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي تعرفت على أحد أبنائها هو الديبلوماسي رشيد ابن شقيقه امحمد الخطابي رفيقه في حرب التحرير التي خاضها ضد المستعمر الإسباني والفرنسي بين 1921 و 1926 من القرن الماضي، حيث كان اللقاء والزواج في دمشق، حيث شغل السيد رشيد الخطابي هناك منصبا ديبلوماسيا في السفارة المغربية، ثم كان الانتقال إلى مصر بعد تأسيس الجمهورية العربية المتحدة. وبعد مدة تم الانتقال إلى المغرب، حيث ستعيش السيدة صفية قَدَراً آخر مع العائلة الخطابية بآلامها وآمالها، إذ وبعد وفاة زوجها رشيد، سيكون الاقتران بعد سنة بابن الزعيم الخطابي إدريس الذي اعتبر أولاد ابن عمه رشيد بمثابة أبنائه، قبل أن تعيش صدمة فقدان زوجها إدريس في حادثة مفجعة لم يتم الكشف عن تفاصيلها حتى اليوم. كنت أسمع عنها كثيرا سواء ممن أعرف من بنات الأمير الخطابي، أو من بعض الصديقات اللواتي يعرفنها عن قرب ويرتبطن بها بعلاقة خاصة، زرتها في أحد المرات في مقر سكناها بالرباط، لأكتشف سيدة فاضلة غاية في اللطف والتواضع، تعطيك انطباعا أنها من الصنف الذي ينصت أكثر مما يتكلم، وسرعان ما أخذ الخط ينساب بيننا، فأطلعتني على جزء من مسودة قالت أنها تدون فيها مذكراتها، وبعدها بدأت تتحدث عن إبداعاتها الفنية حيث كانت تشير إلى بعض اللوحات التي رسمتها، وأعتقد أن واحدة من ضمنها كانت للمجاهد امحمد الخطابي شقيق الزعيم محمد بن عبد الكريم. وبعد تداعي النقاش الجميل، أصرت على أن تعزف بروح طفولية رائعة (وهي في عمر تجاوز الثمانين) على البيانو الموجود في الصالة نشيد "موطني.." الجميل الذي كتب أبياته الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان (ولحّنه الموسيقار اللبناني الكبير محمد فليفل)، طوقان هو نفسه من كتب النشيد الوطني لجمهورية الريف في العشرينات إبان مرحلة الكفاح المسلح في مواجهة الغزو الاستعماري الإسباني والفرنسي لشمال المغرب "في ثنايا العجاج والتحام السيوف... كلنا يعجبُ بفتى المغربِ/كلنا يطرب لانتصار الأبي..". كانت زيارتي لها أسابيع قليلة بعد حوارها الشهير مع جريدة المساء في ركن "كرسي الاعتراف"، فكان مناسبة لمناقشتها في بعض الأفكار التي طرحتها في هذا الحوار الذي أضافت فيه معلومات كثيرة، لكن يبدو أن تأثرها ببعض الحملات التي كانت تستهدف شخصيات وطنية كانت مناهضة لنظام الحسن الثاني ولأسلوبه السلطوي المدمر، مثل الشهيد المهدي بنبركة، جعلها تنقل مرويات تحتاج إلى تدقيق، وهو ما وضحته لها انطلاقا مما سمعته شخصيا سواء من فم المجاهد الراحل محمد الفقيه البصري في أكثر من لقاء لي معه، أو من فم الدكتور عمر الخطابي رحمه الله أثناء لقاء مطول معه في منزله بالقنيطرة، أو من الأستاذ أحمد المرابط الذي رافق الأمير الخطابي سنوات في القاهرة، أو من المجاهد محمد بنسعيد أيت يدر الذي حدثني طويلا عن أسباب سوء الفهم الكبير الذي حصل بين أجنحة قوى التحرر المغربية في فجر الاستقلال، والدور السيئ الذي لعبته الأجهزة المخزنية في اختلاق وتعميق ذلك حتى لا تبنى جبهة مشتركة لمواجهة استحقاقات إيكس_ليبان وما بعدها. وهي المعطيات التي وضحها في كتابه الأخير الصادر تحت عنوان "الهيئة الريفية"، وشرحت لها كيف أن التقدير كبيرا بين الأمير الخطابي ورموزا قادوا تجربة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حتى أن الأمير كان هو السبب في إقناع عدد من رموز الشورى والاستقلال بالدخول في تجربة بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وشجعتها أن تعمل على جمع ما نشرته في كتاب، وهو ما أخبرتني أنها ستقوم به، بعد تدقيق بعض تلك المعطيات التي قالت لي أنها لم تكن تملك ما يكفي منها بحكم ابتعادها عن العمل السياسي وتفرغها لبيتها وتربية أبنائها. فوحّدت بذلك أسرتين مناضلتين (الجزائري والخطابي)، حتى أن إحدى الصحف الباكستانية كتبت بمناسبة حدث الإعلان عن زواجها عنوانا كبيرا:"مصاهرة كريمة بين عائلتين كريمتين"، مثلما كانت جسرا بين مشرق الوطن الإسلامي ومغربه (سوريا، الجزائر والمغرب). كانت رحمها الله امرأة متصوفة تجمع فضائل الأخلاق ولطائف السلوك، مثلما كانت صاحبة روح شفافة، كيف لا وهي الفنانة المبدعة التي أتقنت العديد من الفنون، كانت محضنا لأسرتها الصغيرة، وملاذا للأسرة الكبيرة، لروحها شآبيب الرحمات في أعالي الجِنان، ولأسرتها الصغيرة أسماء، فضيلة، نُهى، ميرفت، رضى، هشام وياسين، ولإخوتها ربيعة، براءت، ماجد، ناشد وفاتح، ولجميع أصهارها ولآل الخطابي وباقي الأسرة الكريمة الصبر والسلوان. وإنا لله وإنا إليه راجعون.