بدون أدنى شك أن الخطب الملكية السامية خلال السنوات الأخيرة أصبحت تقدم رسائل واضحة وإشارات دقيقة لكل الأطياف السياسية والمجتمعية و مؤسسات الدولة بشتى مستوياتها، فقد حرص جلالته على ملامسة و تشخيص المشاكل الحقيقية التي يعاني منها المواطن على امتداد أرجاء الوطن، حيث أصبحت خطب الملك محمد السادس المرآة العاكسة لما يخالج الشعب المغربي و محطة للتعبير عن تطلعاته. ولعل من بين هذه الخطب السامية القوية، يندرج خطاب الذكرى 18 لإعتلاء جلالة الملك العرش، حيث أكد عن قناعة راسخة لجلالته برهانات المستقبل و ضرورة جعل المغرب يواصل سيره نحو النمو وإرساء دعائم الدولة الديمقراطية بخطى ثابتة من خلال مشاريع ضخمة و أوراش الإصلاح الكبرى التي أعطى إنطلاقتها منذ توليه عرش المملكة. فلا يمكن لنا كمتتبعين ومهتمين أن نمر مرور الكرام على هذا الخطاب الذي يعتبر من الخطابات التاريخية لجلالته، فهو لا يقل قيمة من خطاب مارس 2011، أين تم إعلان إعادة صياغة وثيقة دستورية جديدة بمواصفات و معايير تستجيب لانتظارات المرحلة و تواكب الخيار الديمقراطي الذي تبناه المغرب، فالخطاب السامي ل 29 يوليوز جاء غنيا بحمولته و دلالاته و رسائله الواضحة في الزمان و المكان، بأسلوب بسيط يخلو من الترميز وبلغة يفهمها كافة المغاربة و لا تحتاج إلى قراءات و تحليلات المتخصصين، خطاب نبه من خلاله الطبقة السياسية لاستدراك ما فات و ما ضاع من فرص بسبب ما شاب الممارسة السياسية من ضعف في التدبير الحزبي أساء للمشهد السياسي ببلادنا و جعله فارغا من حيث أهدافه و أدواره الوسائطية و التمثيلية، في الوقت الذي كان يجب على الفاعل الحزبي أن يتحلى بقدر كبير من المسؤولية في تنزيل التوجهات الإستراتيجية في المجالات الإجتماعية و الإقتصادية، مشيرا إلى ذلك بقول جلالته " فبقدر ما يحظى به المغرب من مصداقية، قاريا ودوليا، ومن تقدير شركائنا ، وثقة كبار المستثمرين ، ك"بوينغ" و "رونو " و"بوجو"، بقدر ما تصدمنا الحصيلة والواقع، بتواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال أنها تقع في مغرب اليوم."، فجلالته يعي جيدا أن المواطن المغربي البسيط هو الذي يعاني من تردي خدمات القطاعات الإجتماعية خصوصا المرتبطة منها بالصحة والتعليم والشغل و الخدمات الأساسية التي تضمن الكرامة للمواطن و حقه في عيش كريم، ما يجعل من الضروري إعادة النظر بطريقة جدرية وثورية وشجاعة في طريقة تسيير هذه القطاعات الحساسة التي لها أثر مباشر على الإنسان، حيث لا يمكن لأي بلد من البلدان أن يتطور دون توفير هذه الخدمات الحيوية. فقد ربط جلالته تردي هذه القطاعات والخدمات بضعف المردودية في القطاع العام، وسوء التسيير من طرف الموظفين العموميين، بسبب عدم كفاءتهم وغياب روح المسؤولية والجد والإجتهاد للإرتقاء بوظائفهم على أكمل وجه، ولعل جلالته وهو يرصد هذا الخلل البنيوي في الإدارة المغربية يساءلنا من أجل إعادة النظر في آليات التدبير التي تستوجب ضرورة الإستثمار في الموارد البشرية باعتبارها ركيزة أساسية في كل عملية تتوخى تحقيق التنمية المنشودة، فبدون وضع إستراتيجية واضحة لإستغلال طاقات وخبرات الموارد البشرية المؤهلة يكون مصير كل السياسات و البرامج الفشل و هدر المال و الزمن، بل الأكثر من هذا يجب أن نضع مخططا منهجيا جديدا يقطع مع النمط التقليدي في التعامل مع الموظف مهما بلغت و اختلفت درجة المسؤولية و الوظيفة التي يتقلدها سواء مركزيا أو جهويا أو محليا بحكم أن ما يهمنا هنا هو تحقيق الفعالية و المردودية في العمل و تطوير أداء المرفق العام، إلا أن هذا لن نجد له وقعا إيجابيا لدى الموظف إلا بتمكينه من مناخ جيد و مناسب يوفر له ما يكفي من المحفزات المادية والمعنوية المقرونة بالعطاء و الإنتاج، فلا يعقل أن يكون هناك موظف يعمل بكد وبجد وبمجهود مضاعف، ليجد نفسه في درجة واحدة مع الموظف الكسول أو الغائب و المهمل لواجباته الذي لا يؤدي عمله على أحسن وجه، فهذا الأمر يؤثر سلبا على الجميع داخل الإدارة ويصبح "التكاسل" و " اللامبالاة " سمة تطبع سلوك الجميع تحضر معها المزاجية محل روح المسؤولية، لهذا فإن الحوافز والتشجيعات و التنويهات تبقى مسألة في غاية الأهمية لدى من يجتهد أكثر لخلق نوع من التنافسية بين الموظفين في إطار شريف يخدم الوطن و المواطن، بيد أن هذا يتطلب القيام بالواجبات و الأدوار المنوطة بالموظف سواء داخل مكتبه ومن وراء شاشة الحاسوب أو ميدانيا في مهام تستوجب المتابعة و المراقبة و الحرص على الجودة حتى يتسنى له فعليا إيجاد الحلول الناجعة بعيدا عن التنظير فقط. فالموظف الحداثي والناجع إن صح التعبير ، اليوم يحدد بقدرته على التواصل والتشخيص الإشكاليات وإيجاد الحلول العملية للإشكاليات التي من شأنها ضمان نجاح الخطة أو البرنامج سواء على المدى القريب أو المدى البعيد، بل الأكثر من هذا على الموظف أن يكون منخرطا في عمله واعيا بمسؤولياته و ملما بكل تفاصيلها ولن يتحقق ذلك إلا بوضع كل شخص في مكانه المناسب بما يتوافق مع تكوينه و مساره العلمي و متطلبات المهمة الموكولة إليه. مضمون الخطاب الملكي السامي لم يخلو من إشارة إلى ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ أكد على ضرورة تفعيل وتطبيق مقتضيات الدستور خصوصا في الفصل الثاني من الفصل الأول، فلا يعقل في مغرب 2017 أن تثبت خروقات في حق مسؤولين وموظفين بدون معاقبتهم و محاسبتهم، فمن أجل فتح صفحة جديدة وإعادة الثقة إلى المواطنين، لابد من يطبق القانون والمساطر الإدارية والعقوبات في حق كل من تبث عنهم إرتكابهم خرقا أو تجاوزا حفظا و صيانة لمصداقية مؤسسات الدولة و هيبتها و تفاديا لهدر المال العام لاسيما و أن بلادنا دخلت عهدا جديدا بضمانات دستور 2011 المتقدم من حيث مضامينه. إن القضية الأخرى التي لها أهمية كبرى في خطاب جلالة الملك نصره الله، هي المتعلقة بالحياة السياسية، فبدون شك ان ما قاله جلالته يعري بشكل واضح الواقع السياسي المعاش، والذي أصبح مميعا بشكل كبير، حيث لم يبقى للأحزاب السياسية أي فاعلية داخل المجتمع، وفقدت حس التأطير ولم يبقى لها أي إمتداد شعبي وسط الجماهير، ما جعل منها مجرد تنظيمات تظهر أساسا في الإنتخابات، من أجل الحصول على مقاعد في البرلمان أو داخل المجالس الجماعية، لخدمة مصالح طبقة صغيرة من المنتمين لها، وهمشت بشكل كبير المناضلين الغيورين الوطنيين المدافعين بشدة عن مصالح الوطن والشعب، فاليوم أصبحت الأحزاب على عكس الماضي، وسيلة من أجل الوصول إلى المنافع الشخصية لطبقة معينة، عوض أن تكون هي الدافعة إلى تحقيق العدالة الإجتماعية، وتقليص الفوارق الطبقية للفئات المجتمعية المختلفة، والضامن والساهرة على تطبيق القانون. فالأزمة التي تعاني منها هذه الأحزاب تجعل، الجميع متشائم من مستقبل العمل السياسي والحزبي في البلاد، وإن إستمر الوضع على ماهو عليه، فلن تعود لهذه الأحزاب أي مصداقية وبهذا تفقد المؤسسات المنتخبة شرعيتها، ليعود المواطن عوض الإنخراط في التغيير من داخل المؤسسات، يلجأ للشارع لرفع مطالبه عبر الإحتجاجات، وهذا أمر عادي لأن مطالبه لا تصل عن طريق المنتخبين الذين هم في الحقيقية يجب أن يمثلوا الأمة ويعبروا عن همومها ويسهروا على إيصال مشاكلها. فالحل اليوم لتغيير هذا الواقع المرير هو ثورات داخل الأحزاب السياسية، من أجل خلق قيادات جديدة تتحمل المسؤولية بكل روح المسؤولية، بل الأكثر من ذلك على بعضها أن تتحلى بالجرأة وتعلن حلها والإندماج وسط الأحزاب القريبة لها إديولويجيا، لكونها لا تتوفر على أي قاعدة، ولما لا تشكيل حكومة وحدة وطنية وإعطاء مدة 5 سنوات للأحزاب السياسية لتعيد بناء ذاتها على جميع المستويات. في الختام لا يمكن إلا القول أن ملك البلاد نصره الله، أعطى رسائل كافية وواضحة من أجل السير ببلادنا إلى الأمام، وجعل المغرب يتبوأ مكانته ضمن الدول الديمقراطية، فكما قال جلالته "إتقوا الله في هذا الوطن"