أصدر الأستاذ جمال أبرنوص، الباحث في قضايا الثقافة والفكر المرتبط بالمجتمع الريفي، توليفة ترجمية جديدة ضمّنها مقالات بحثية ماتعة تحت عنوان محوري "جرس العشيرة" إلى جانب عنوان فرعي "مقالات كولونيالية عن الريف الإثنوثقافي"، وهي إجمالاً مقالات ترصد الحياة الاجتماعية والإثنوثقافية بالريف ما قبل الكولونيالي، فيما يلي ورقة تقديمية للمنجز البحثي: تقديم: جمال أبرنوص صدر عن الكاتب الجزائري المعروف كاتب ياسين Kateb Yacine قول شهير فحواه أن الفرنسية بالنسبة إليه غنيمة حرب. وقد كان دافع تصريحه، آنذاك، رغبته في إقناع فئة من المفكرين المغاربيين الذين ما فتئوا يدعون إلى التخلص من كل مخلفات الاستعمار: مادية كانت أم رمزية. وقد رأت، إبانها، فئة من المثقفين في هذا القول نزوعا فرنكوفونيا لا مسوغ له، بينما دافعت فئة ثانية عن إيحاء اللفظ، معتبرة أن دفاع المرء عن اللغات الأجنبية لا يستوجب بالضرورة سعيا إلى تأبيد مصالح معينة، بل هو دليل الرغبة في الاستزادة من مناهل العلم والمعرفة، وشاهد على طمع مشروع في بلوغ الآفاق، وبخاصة عندما تكون اللغة موضوع التعلم ذات قيمة عليا داخل سوق الممتلكات الرمزية العالمي. مناسبة هذا القول هي رغبتنا في إسقاط سالف النقاش على قضية ذات صلة، هي قضية الأرشيف العلمي الكولونيالي. فقد ظل هذا المخزون العلمي مثار استبعاد وتهميش، حينا لاعتبارات خلفياته الإيديولوجية غير الخافية، وحينا لاعتبارات وقوعه في أمكنة قصية عن عيون الباحثين والمهتمين. وحينا ثالثا لطبيعة المواضيع والقضايا التي خاض فيها الدرس الكولونيالي، وهي قضايا يدور مجملها في فلك اشكال التعبير الإثنوثقافية (بناء اجتماعي وسياسي، معتقدات شعبية، فنون تقليدية..)، وغير خاف هنا أن المؤسسات البحثية المغربية ظلت، إلى عهد قريب، تزدري هذه القضايا وتستنكف عن الخوض فيها أو استدعائها إلى حلبة البحث والدراسة. بإيجاز نقول إن نظرة كثير من الدارسين المغاربة والمغاربيين إلى الأرشيف الكولونيالي أبعد ما تكون عن نظرة الكاتب المغاربي المثار اسمه آنفا، وأقرب إلى موقف المحافظين الرافضين للغة الفرنسية. وبموجب هذه النظرة يستمر جهل الباحثين الشباب بالمنجز البحثي في هذا الصدد، فتفقد بذلك الساحة الأكاديمية فرصا واعدة لرسم صورة عن حال المنجز البحثي L'état des lieux de la recherche، بربط السيرورات، واستكمال المشاريع المنطلقة، وتتمة البحث في القضايا العالقة، ثم قياس مسافات الانتقال وإيقاعات التحول المجتمعي، طالما بمقدورنا العودة إلى مادة علمية مرجعية واصفة لحال المجال المذكور بدءا من أواخر القرن التاسع عشر. بموجب هذه النظرة أيضا، تظل المادة العلمية موضوع الحديث شأنا خاصا جدا، لا يقربه إلا قلة من المتخصصين، الذين ينجزون بحوثا وأطاريح أكاديمية قلما يتم نشرها في هيئة إصدرات وكتب يستفيد منها القراء من ذوي المشارب المتعددة. ولعل ما يزيد من تكريس هذا الزعم هو أن النسبة الغالبة من القراء والمهتمين والباحثين في القضايا الموصولة إلى موضوع الحديث، تعاني من تدَنّ كبير على مستوى كفاياتها اللسانية في اللغتين اللتين كتب بهما مجمل الزاد العلمي الكولونيالي: الإسبانية والفرنسية، ولاسيما الجيل الذي دلف المدرسة منذ انطلاق ورش التعريب المثير للجدل. في ظل هذا الواقع الموصوف، كان لزاما على الباحثين في قضايا الثقافة والأدب أن يفكروا في سبل توسيع دائرة المستنفعين من هذا الأرشيف، وفي هذا السياق تحديدا تأتي هذه المحاولة الترجمية الواقعة بين دفتي هذا الكتاب، أي محاولة تمكين الباحثين المعربين Les arabisants، من مادة علمية كولونيالية قلما التفت إليها من قبل الباحثين في التجليات الثقافية الريفية المختلفة. هي ترجمة منتقاة بسبق عناية وإصرار، تهم مقالات فرنسية خطت بداية القرن الماضي، أي أنها تعود، زمنيا، إلى الفترة ما قبل الكولونيالية، لكنها كولونيالية من حيث المشروع والخلفية. وهي مقالات تتحدث عن الريف حديثا ثقافيا جامعا لا يقيم حدودا دقيقة بين المجالات والحقول المعرفية، إذ يمزج فيها الباحث بين الأدب وغيره من فنون القول والفرجة واللسانيات والإثنوغرافيا والإثنوموسيقولوجيا، كما يمزج فيها آخر بين الجغرافيا البشرية والتاريخ والأسطورة بغير حرج ولا استثقال. هي كتابة مليئة بأحكام القيمة (وهذا ديدن الكتابات الكولونيالية في مجملها )، تسعى إلى فهم السلوك والأهواء، وتفسير الطباع. لذلك سيتلمس القارئ ميلا لافتا من قبل أصحابها صوب نوع من الإثنوغرافية الوظيفية، أي تلكم الإثنوغرافية التي تنتقي من أشكال التعبير ما يبدو نافعا للمؤسسات الراعية للمشاريع البحثية، وهي المؤسسات التي ستنخرط بعد حين في مشاريع التهدئة والتوغل في المجال. هي وظيفية المرامي، بيد أنها ليست استعلائية أو إثنومركزية على نحو ما كان يصدح به المشروع الاستعماري الذي ظل يخفي أطماعه تحت جبة السعي إلى تعليم شعوب الجنوب أصول الحضارة والتحديث. ودليلنا على هذا الزعم عناية البحث الكولونيالي بأشكال التعبير التقليدية المختلفة (فرجات، ألعاب، فنون القول المختلفة، معتقدات..)، وعدم ازدرائها أو التندر على ممارسيها ومبدعيها كما يفعل كثير من أبناء البلد من المتمدرسين، اليوم، إزاء بعض هذه الأشكال المذكورة. أما عن البواعث التي دفعتنا إلى اختيار مقالات بعينها، فيمكن إيجازها في باعثين رئيسين؛ أولهما حرصنا على إغناء حقل البحث وتوسيعه، بما يسمح للقارئ بأخذ صورة أكثر شسوعا عن الحياة الاجتماعية والإثنوثقافية بالريف ما قبل الكولونيالي، وثانيهما استشعارنا (من خلال خبرتنا البحثية في المجال) أهمية المقالات الثلاثة وقلة تداولها بين جمهرة الباحثين في المواضيع ذات الصلة بمنطقة الريف وما جاوره من البقاع: مجالا وإنسانا وثقافة. يقع المقال الأول الذي خطه م. رزوق M.Rezzouk ضمن دائرة الأبحاث ذات الطابع السوسيولوجي "الاستخباراتي"، إذ يستطيع القارئ تلمس عناية الكاتب اللافتة بالجوانب المحيطة بنظيمة العيش الاجتماعية، سواء ما تعلق منها بأشكال التنظيم السوسيوسياسي التي كان يحتكم إليها الريفيون إلى حدود بداية القرن الماضي، أم ما يتصل بالحياة الدينية وتمثلات الأصول والتوطين. أما مقال المستمزغ ص. بيارناي S.Biarnay فيعتبر المقال الكولونيالي الوحيد الذي تعرض بالدراسة للشعر الغنائي الريفي المغنى. وهو عبارة عن مونوغرافية ذات طابع إثنوغرافي انشغل فيها الباحث بهم التوصيف والتأويل؛ توصيف حيثيات الفرجة الشعرية الغنائية، في صيغتيها الرجالية والنسائية، وفي تجلياتها المختلفة؛ القولية والتعبيرية الجسدية والموسيقية؛ وتأويل دلالات النصوص ومقصديات الشعراء والشواعر، فضلا عن غايات الفرجة باعتبارها طقسا اجتماعيا محدد الهدف الوظيفة. ثالث المقالات التي خصصناها بالترجمة، عمل نوعي يكتسي أهمية بالغة، وذلك لما يوفره من المعطيات اللسانية والسوسيولسانية التي تخص تنويعة لسانية أمازيغية شمالية هي اليوم في طور الاندثار. لقد التفت ج. كولان G.S Colin، أواخر العقد الثالث من القرن الماضي، مَقُودا بفِراسة الباحث المتمرس إلى وضع الاحتضار الذي كانت تعيشه التنويعة الأمازيغية الغمارية عهدذاك، لذلك قرر أن يرسم خارطة تداولها، وأن يدون متنا يشهد على خصائصها، وأن يكشف (بما توفر له من معطيات ومدخرات) سر مقاومتها وصمودها وسط مجال قبلي عربوفوني يحيط بها من كل الجهات. يتعلق الأمر، إذا، بمحاولة ترجمية تمس مجالا زمنيا وجغرافيا رحبا، وهي محاولة أولى تأتي في سياق مشروع شخصي ننوي من خلاله ترجمة أكبر عدد ممكن من المقالات والدراسات الكولونيالية الفرنسية التي تناولت الريف الإثنوثقافي موضوعا ومجالا. وذلك كي يتأتى لعموم الباحثين والمهتمين إجراء الاستدراكات الضرورية لأحكامهم فيما يخص الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية بالمنطقة. والقيام بالتمحيصات الضرورية للمتون الواردة ضمن هذه المقالات، وتحقيقها وموازنتها مع المتون الشفوية التي ما تزال حية على شفاه قلة من الشيوخ والباحثين. كل ذلك في أفق رسم خريطة بحث علمية ممأسسة تقطع مع التقليد الحدوسي الذي يقوم على قاعدة الحساسية الخصوصية في التعامل مع الظواهر الأدبية والمتون التعبيرية القولية وغير القولية المختلفة. لماذا جرس العشيرة عنوانا ؟ وما علاقة إيحاء هذا العنوان بما يجمع المقالات الثلاثة ؟ ولماذا الإلحاح على عنوان نقيم به علاقة "شعرية" مع هذا المؤلف ؟ ليس خافيا، طبعا، أن الأمر مدفوع بخلفيات ذاتية نريد بها إحداث وقع نفسي يجذب المتلقي إلى تصفح محتويات الكتاب، أو استدراجه إلى شراكه. بيد أن الحري بالقول أيضا إن الأمر يتعلق بعنوان يشي بميلنا الاستعاري الذي نعتقده صفة من صفات خيارنا الترجمي، مثلما نريد به الكشف عن جُهُورَة صوت العشيرة (الفرقة) في النظيمة الاجتماعية الريفية التقليدية، على نحو نخالها نواة البناء السوسيوسياسي الريفي، وبخاصة خلال الفترة السابقة عن الاستعمار الإسباني، أو ما يعرف محليا ب"ءاريفوبليك"، إذ كانت محور التحالفات المسماة ب"اللفوف"، وهي التحالفات التي كانت تخترق مجال الريف من أطرافه إلى أطرافه، مساهمة في إحداث قدر من توازن القوى الضروري لضمان السلم الأهلي. هو إذا، عنوان يحتفي بهذه الوحدة الاجتماعية، ويؤشر على لزوم استحضارها ضمن كل دراسة أو بحث يروم إماطة اللثام عن الحياة الاجتماعية والسياسية للريفيين إلى حدود الفترة الكولونيالية. وهو أيضا، جرس يستهدينا سواءَ المنطلقِ في الدرس والتأمل، ويستثير حاجتنا إلى فهم المجريات كي يستقيم فهم الحاضر واستشراف المصير.