عن هسبريس | ط.العاطفي أ.الخياري يحمل أحمد مركوش، البرلماني الهولندي ذو الأصل المغربيّ، قناعات تجرّ عليه قدرا غير يسير من انتقادات من تمسّهم .. ذلك أنّه يرَى بأن الجريمَة تبقَى جريمَة بغضّ النظر عن هويّة من اقترفها، كما يؤمن بأن المطالبة بنيل الحقوق لا تُسقط، بأي حال من الأحوال، ضرورة القيام بالواجبات المسطّرة في كلّ عقد اجتماعيّ .. أمّا مسار حياة مركُوش فهو قامُوس مفسّر، بجلاء تامّ، لأسباب تبنّي هذه القناعات من لدن رجُل بدأ حياته بصدمة مسّته قبل أن يحوّل جهود إلى إحداث صدمَات لدَى الغير .. علّ العلاج بالصدمات يفِي بالغرض تجاه الاعتلالات المجتمعيّة المرصُودَة سفر في الزمن انخرط أحمد مركوش في تجربة هجرة نحو هولندا، من بوابة التجمّع العائلي، وهو في العاشرة من عمره، وبذلك انفتحت أمامه آفاق أرحب وهو الذي لم يلج، حين عيشه بقرية بني بوغافر في إقليم النّاظور، إلاّ الكتاب القرآني، دون أن يعرف كيف تبدو المدارس الحكوميّة من دواخلها. وعن تلك المرحلة يقول مركوش: "لم نكن نتوفر على تلفاز أو مذياع ببيتنا في البلدة المتاخمة لثغر مليليّة، وبالتالي كانت هولندا جنّة ومصدر خير بالنسبة لي ولأفراد أسرتي، إذ كان أبي، كل قدوم نحونا من الأراضي المنخفضة التي يشتغل بها، يلوح مبيضّ الوجه ومحملا بهدايا يوزّعها علينا، زيادة على اللباس الأنيق الذي يرتديه". ويضيف أحمد: "في سنة 1979 ركبنا الطائرة من وجدة صوب أمستردا، فوجدنا البلد مزودة بالكهرباء، وبها شوارع تعمّها وسائل النقل السريعة، وحتّى منزلنا ولجناه من سلّم عمارة لم نألف صعوده ببيئتنا الأصل، فكان كلّ ذلك يجعل هجرتنا متجاوزة لمعيار المسافة وتدنو من مفهوم السفر في الزمن، بتأثير من مقومات العصرنة التي لم تكن متوفرة لنا في فضاء حياتنا بشمال المغرب". بحث عن الكرامة إقبال آل مركُوش على الاستفادة مما يمكّنه التشريع الهولندي في باب التجمع العائلي أملاه تغيّر نظرة ربّ الأسرة لمستقبل الهجرة، إذ كان يعمل على محاولة توفير مقدار من المال بنيّة العودة إلى حياته الأصلية بمنطقة الريف المغربيّة، وأن ينشئ مشاريع مدرّة للدخل كي يضمن مستقبل أبنائه، لكنّ نهاية السبعينيات أثبتت له أن حلمه لن يتحقق بما خطط له، فقرّر المساهمة في تشكيل الجيل الثاني من هجرة المغاربة إلى الديار الهولنديّة. "لم تكن مُهيّئين لملاقاة المجتمع الهولندي مثلما لم تكن هذه البيئة مستعدّة لاستقبالنا وقتها، وما زلت أذكر كيف كنت، وأنا ابن العاشرة من العمر، أتعامل بالمدرسة التي قصدتها وأنا أُميّ .. هناك تعلّمت كيف يمكنني إمساك الأقلام قبل أن أشرع في تعلّم القراءة والكتابة، فكان الأساتذة لا يدخرون جهدا في سبيل جعلي أحرز التقدّم تلو الآخر، مراعاة لوضعي الاجتماعي والعُمريّ" يقول أحمد مركوش. تمكّن المغربيّ الهولنديّ نفسه من ضبط القراءة والكتابة في عامين من التكوين الدراسي السريع، ثمّ عمل والده على إلحاقه بمؤسسة للتكوين المهنيّ من أجل اكتساب معارف ومهارات في اشغال البناء عموما والنجارة بوجه خاصّ، إيمانا من الأب بأن اكتساب "صَنْعَة" يوفر الكرامة ويحقق العيش بشرف.. فكان أن أنهَى أحمد مركوش هذه المرحلة التكوينيّة بنجاح قبل أن يغيّر ميولاته ويلتحق بتكوين للممرضين، وبعد الاشتغال لفترة ك"ملَاك للرَّحمة" اختار التوجّه للعمل بمؤسسة صناعيّة طيلة 3 سنوات، وخلال هذه المرحلة حاول مركوش تنظيم وقته لتحسين مستواه المعرفيّ، فكان يقدم على العمل نهارا قبل التوجّه نحو فصول الدراسة ليلا. أمن وتعليم وسياسَة يصرّح أحمد مركوش بأنّه لم يتوقف، منذ تواجده بهولندا، في الطرق القادرة على تمكينه من مواصلة الارتقاء اجتماعيا مع الحرص على على التموقع بمراكز تجعله فاعلا إيجابيا بفضاء عيشه الضيق والفسيح .. ويضيف: "أوائل تسعينيات القرن الماضي رصدت إعلانا لشرطة أمستردام يكشف بحث الجهاز عن موظفين جدد، فكان أن تقدّمت لاجتياز الاختبارات التي فلحت في تخطّيها، وبدأت التكوينات بمعهد الأمن، ثم تخرجت لأشتغل شرطيّا من سنة 1993 حتّى أفول عام 2003". عُيّن الشاب ذو الأصل المغربي لأداء الخدمة، برتبة ضابط شرطة، في العاصمة الهولندية أمستردام .. لكنّ احمد مركوش لم يكتفِ بهذا التموضُع الجديد، وإنما أخذ في نيل تكوين ليليّ بمعهد تكوين الأساتذة ليغدُوَ محاضرا في تخصص التكوين الاجتماعي والسياسي، ثمّ أخذ يزاود بين مهنته الأمنيّة وتدريسه يوما في الأسبوع بإحدى المؤسسات التكوينيّة، قبل أن يتفرّغ للتربية والتكوين ابتداء من السنة الرابعة للألفيّة الثالثة الجاريَة. قبل عشر سنوات من الآن ترشّح أحمد مركوش بألوان حزب العمل الهولنديّ ضمن الانتخابات الجماعيّة التي نضّمت بالبلاد وقتها.. وعن هذه التجربة يقول ذات المغربيّ الهولنديّ: "تلقيت طلبا بذلك من حزب العمل الذي رأيته مؤمنا بثقافة التضامن ومراهنا على كل البرامج التي تجعل الناس تترقّى في هذه الحياة، فكان اقتناعي بخوض العمل السياسيّ من بوابة الترشح لانتخابات مقاطعة أمستردام الغربيّة، ومكّنني الفوز من أن أصبح عمدة للمقاطعة المذكورة ذات تعداد سكانيّ معادل ل45 ألف نسمة ذاك الوقت". أسهم تمرّس مركوش بالعمل السياسي إلى ظفره بمقعد برلمانيّ في هولندا، وجاء ذلك خلال الانتخابات التي شهدتها البلاد عام 2010 ونظيرتها لسنة 2012، ويعوّل على معاودة الكرّة خلال الانتخابات التشريعيّة المبرمجة بالأراضي المنخفضة فور حلول سنة 2017. حقوق وواجبات "أستمرّ بالاستثمار في ميلي إلى النشاط بالميدان الاجتماعيّ، وأفكر دوما في سبل تحسين أوضاع الناس عموما، والجالية المغربية بوجه خاصّ .. ومنطلقِي في كل هذا أنّ للناس حقوقا ينبغي أن ينالوها دون أي انتقاص، كما أنهم مطالبون بواجبات عليهم تأديتها دون أي تهاون أو ميز" يورد احمد مركوش. ويضيف المتحدّث: "كان هناك حي معروف بكونه مرتعا خصبا للإجرام والتطرف في مقاطعة أمستردام الغربيّة، حتّى أن قاتل الرسام فان كُوخْ ينحدر منه، وقد عملت من موقعي كعمدة للمقاطعة، بمعيّة الفريق المشاطر لاشتغالاتي، على محاولة إيجاد حلول لهذا الوضع المعيب، فكانت المبادرة بتجديد أوضاع السكن بالمنطقة، وهو الذي أهمِل طيلة عِقدَين سابقين لتحملي المسؤولية التدبيريّة، وجددنا خدمة التمدرس بتحديث البناءات وتوفير موارد بشرية ذات كفاءة، ثم طالبنا الشرطة بأداء عملها بحزم .. وهذا ما أبرز فارقا مفصليا عقب 4 سنوات من الأجرأة، فشرعت المآسي بالتضاؤل، وتحسنت الأوضاع التي كانت قد أخلت بالمنطقة وجعلتها بؤرة سوداء منتجة لليأس ولا شيء غيره". أما على مستوى الاشتغال بالبرلمان الهولندي فإن أحمد مركوش، من موقع تواجده في فريق حزب العمل لولايتين متعاقبتين، فهو يولي اهتماما للاشتغال على مواضيع الاندماج وتوفير الأمن ومحاربة التطرف، إلى جوار تحديث عمل جهاز الشرطة وتوحيده، بعدما كانت كلّ جهة هولندية تتوفر، سابقا على جهاز شرطة مستقلّ خاص بها. لا عطَاء دون منح يعود البرلماني الهولنديّ ذو الأصل المغربيّ إلى نشأته الأولى ببني بوغافر ليستحضر ظروف الحياة التي خبرها، ثمّ يمرق بعجالة على مسار حياته بالديار الهولنديّة، ثم التقلبات الذهنية والاجتماعية والوظيفيّة التي مرّ منها، ليخلص إلى أن "الحياة كلّها لا يمكن أن تعطِي للناس ما يريدون دون الظفر بمقابل". ومن هذا المنطلق ينصح أحمد مركوش الراغبين في خوض تجارب حياتيّة ناجحة، سواء بفضاءاتهم الأمّ أو تلك التي استُنبِتُوا بها من خلال قوله: "تحقيق الأحلام تتوفر له إمكانيات ينبغي البحق عنها، لكنّ الفلاح الحقّ لا يتحقق إلاّ بالاجتهاد في كل الميادين، بدءً من الدراسة .. وإذا كان الحديد يفلّ الحديد فإنّ العراقيل يُحجِّمُها التحدّي والإصرار، والإنسان الفاعل في وسطه الاجتماعيّ قلّما يمسّه احتقار الآخرين .. والأساس أن يكون الفرد جزء من الحلّ، لا طرفا في الإشكال".