على غير عادتي استيقظت في الصباح الباكر. وقبل أن أنام، كنت قد هيأت حقيبتي وقمت بكل الاستعدادات اللازمة، لئلا يضيق علي الوقت ولكي لا أنسى أي شيء. وضعت جواز السفر في حقيبة صغيرة ملتصقة بي كجيب كونغورو، وثروتي من الأورو في مكان سري لن أدلكم عليه. وبالفعل، خرجت من البيت في الوقت المحدد، متوجها إلى مطار محمد الخامس، في زيارة، رفقة وفد صحفي، إلى مؤسسات الاتحاد الأوربي ببروكسيل. ركبت الطائرة، مع زملائي في المهنة، وفي أقل من ثلاث ساعات وجدت نفسي في مملكة بلجيكا، وفي عاصمتها بالضبط. نزلنا جميعا من الطائرة كوفد صحفي مغربي، وبعد الإجراءات الروتينية، خرجنا من المطار، ويا للمفاجأة لم أجد بروكسيل. كل هذا العناء والتعب، وحرصي البطولي على أن أستيقظ في الصباح الباكر تبدد في لحظة، لأجد نفسي بين الناظوروالحسيمة ونواحيهما. لم يخبرنا أحد أن الطائرة اختطفت، أو انحرفت عن مسارها، لكنني لم أعثر على بروكسيل. منذ اليوم الأول للرحلة وأنا في الحسيمة، وباستثناء تلك الزيارات التي كنت أضطر إلى القيام بها رفقة الوفد المغربي إلى هيئات الاتحاد الأوربي، فكل العلامات والإشارات والروائح كانت تدل على أني مازلت في المغرب، وفي منطقة الريف، بالتحديد. شككت للوهلة الأولى في وزارة الاتصال، وقلت إنهم خدعونا، لكن مسؤولي الوزارة الذين رافقونا كانوا جديين ومن المستبعد أن يلعبوا معنا هذه اللعبة. خلاصة الأمر أني لم أجد بروكسيل، ومنذ اليوم الأول لي في هذه العاصمة الأوربية وأنا بين إخواني المغاربة، وكلما سنحت لي الفرصة، كنت أتسلل من الوفد على رؤوس أصابعي، وأذهب رأسا إلى الحسيمة، حيث الشاي المنعنع والبيصارة وأنواع الطاجين وسناك أمين للسمك والكباريهات والشيشة والشعبي والشاب بلال وعقيل والصنهاجي والداودي. في الليلة الأولى لي في الفندق، خرجت لأدخن سيجارة، فصادفت هدية مغربية وزغاريد وضجيجا وفرحا بالعريس والعروسة، بينما النصارى يتفرجون مندهشين بما يحصل حولهم، وينظرون باستغراب إلى حفل زفاف مغربي عابر في الطريق، وفي أهم شارع في بروكسيل. حتى العادات والتقاليد التي انقرضت في المغرب، مازال أهلنا في بروكسيل، التي هي الحسيمةوالناظور، يحتفظون بها، وقد أمضيت وقتا طويلا قبل أن أصدق أنني فعلا في عاصمة بلجيكا. الغريب أن البلجيكيين هم الذين اندمجوا في الثقافة المغربية، فكثير منهم يتكلم الدارجة بطلاقة، بعد أن تزوجوا بمغربيات، وفي الحي المغربي، يوجد بائع متجول إفريقي معروف، يبيع سلعا صينية، ولا يتحدث إلا الدارجة المغربية، وكلما مر أمام الجالسين في المقاهي، يردد عبارة "ها هو جا"، ثم يعود ثانية ويخبر الجميع أنه"ها هو مْشى"، دون لكنة، ما يدل أن الجميع دون استثناء تمكنوا من تحقيق الاندماج في المجتمع المغربي ببروكسيل. يقول المغاربة عند سؤالهم عن ذلك المهاجر الإفريقي وكيف تمكن من الاندماج في المجتمع المغربي، إنهم"فلاشاوه"، والحقيقة أنه عاش لمدة في مدينة طنجة، وعندما تمكن من الوصول إلى بروكسيل، اكتشف أنه لم يغادر المغرب، تماما كما حصل لي أنا شخصيا. وفي كل لحظة يمر مغربي يحمل سلة وينادي "لوز كاوكاو"، ثم تأتي وزارة الاتصال وتدعي أنها نظمت لنا رحلة إلى مقرات الاتحاد الأوربي. زميلة صحفية، ومن فرط عدم تصديقها أنها في بروكسيل، حدث وأن أخذت برفقتها تاكسي، وقبل أن ننزل، خاطبت السائق بالقول" شي بلاصة هنا عافاك"، ويا للمفاجأة، فقد كان الوحيد الذي لا يفهم اللهجة المغربية، ويعاني من مشاكل اندماج، ربما بسبب انعزاله وغياب ثقافة الانفتاح لديه على نمط العيش البلجيكي. هناك اكتساح مغربي في الميترو وفي الترام وفي الحافلات وفي الشارع وفي المحلات التجارية، وهناك سلفيون مغاربة، وشيعة مغاربة، وشحاذون مغاربة، وحشاشون مغاربة، ومتشردون مغاربة يبيتون في العراء، وتجار ناجحون، وأساتذة جامعيون، وسياسيون، وهناك حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يتوفر على فرع قوي ومناضلين، حتى أن صاحب أحد المطاعم المغربية، أخبرنا أن قيادات من الحزب أكلت السمك اللذيذ في مطعمه. في بروكسيل يوجد درب عمر وبنجدية وشارع محمد السادس والقامرة ومحطة ولاد زيان أيضا، ففي شارع طويل يعرض الفرّاشة كل يوم سلعهم في الرصيف، وعندما ينصرفون في المساء يتحول الشارع إلى مكب قمامة كبير، مليء بعلب الكارتون والأزبال والبلاستيك، كل شيء يباع فيه، تماما كما في المغرب، والغائب الوحيد هم رجال القوات المساعدة. لا يمكن إلا أن تشعر بالفخر وأنت ترى الناظوروالحسيمة في بروكسيل، فقد تمكنا من شراء أهم شارع في مركز عاصمة بلجيكا، كل شيء لنا، المحلات التجارية واللغة والشرطة والمقاهي وسائقو الحافلات، دون حرب ولا استعمار، وأكثر من ذلك، فقد انسحب السكان الأصليون عن طيب خاطر، واستقروا في الضواحي، وسلموا لنا القلب النابض، وحينما ترى شخصا أشقر فهو إما تائه، أو أجنبي، أو جاء ليتناول طعاما مغربيا شهيا، غير ذلك كل شيء لنا، ونحن الأقوى والأكثر عددا بين كل الجنسيات المستقرة في بروكسيل. لقد أسرتنا مدينة الناظوروالحسيمة في بروكسيل، كل يوم ننتهز الفرصة ونفر من صرامة مواعيد برنامج الزيارة، ونذهب عند أبناء جلدتنا، نشرب الشاي ونأكل الحرشة والمسمن والمرق، وفي الليل نعود منهكين من المغرب البلجيكي في اتجاه الفندق، الذي يوجد في منطقة خارجة عن سيطرة النفوذ المغربي، وهي التي كنا نصادف فيها البنات الشقراوات العاريات الكاسيات وطعام الخنزير الحرام والبارات والنبيذ وكل العادات السيئة للنصارى أتباع دين المسيح، الكفرة منهم والمؤمنون، ومن العجب أني رأيت مغربية تشحذ في باب كنيسة، فيخرج المصلون وينفحونها صدقة بالأورو. أخذت تدريجيا أتعود على بروكسيل، ورغم أنني وجدت مدينة مغربية ولم أجد أوربا، فإنني لم أندم على شيء، باستثناء استيقاظي على غير العادة في الصباح الباكر، واضطراري إلى طلب فيزا وتحملي لإجراءات المطار المتعبة، في وقت كان من الممكن أن أذهب من القامرة أو محطة ولاد زيان، لأن بروكسيل مدينة مغربية، ومن حق كل مغربي أن يدخل إليها متى شاء، ويسافر إليها في الحافلة، لأن محطة المسافرين فيها متسخة وتشبه محطاتنا، لا فرق أبدا، هذا دون الحديث عن عامل اللغة والهوية المشتركة والدين، وكل من زار بلاد الوالون والفلامان والريف، سيتأكد أن بروكسيل مغربية وستبقى كذلك، فكل شيء يثبت أننا بلد واحد ومصير مشترك، أما ركوب الطائرة والتأشيرة، فهي مجرد حواجز وحدود وهمية ستزول مع الوقت، والمؤسف أننا قضينا عقودا نفكر في الوحدة العربية والقومية العربية، ونسعى إلى البحث عن مشترك مع دول وثقافات مشرقية وخليجية لا يجمعنا بها شيء، مهملين بروكسيل وعواصم أوربية أخرى، كل ما يتحرك فيها مغربي، ناهيك عن عامل القرب الجغرافي وحب المغرب والتشبث بثقافته وطعامه وأغانيه وتلفزيونه، حتى أن المغاربة في المغرب لا يشاهدون القناة الأولى والثانية، بينما في بروكسيل فإنها متوفرة في كل المقاهي، وهناك من يتابع البطولة المغربية، ويعرف اللاعبين المحليين بأسمائهم. لا يعني ركوب الطائرة في اتجاه مكان محدد أنك بالضرورة ستجده، وهذا ما وقع لي بالضبط، حيث استيقظت باكرا، وذهبت إلى بروكسيل، لكني لم أجدها، فقد حلقت في السماء ودارت بي الطائرة، وحطت في النهاية بالريف، في منطقة معظم سكانها من الناظوروالحسيمة والنواحي، ومغاربة من مدن أخرى، وهذا من عجائب الأسفار إلى بلاد بعيدة، فكم من رحالة قطع العالم جيئة وذهابا، ليكتشف أنه لم يبرح مكانه، وأن السفر هو انتقال في نفس المكان، وكما حدث أن مغاربة كانوا يأكلون السمك في سناك أمين في الدارالبيضاء، فقد أكلته أنا أيضا في بروكسيل عند سناك أمين، ولأتكد أني لا أحلم وأني في كامل وعيي، فقد التقطت صورة لقنينة لتر كوكاكولا من الزجاج، لم تعد رائجة بكثرة حتى في المغرب، وقد قالها قديما أحد المتصوفة، يكفي أن تدور في مكانك وتسافر حول نفسك وها أنت في كل العالم، وها أنت ترى العجب العجاب، بلجيكا في المغرب والمغرب في بلجيكا، وبروكسل في الناظور، والحسيمة في بروكسيل.