صور: ناظور سيتي تعيش جماعة بني جميل أو عاصمة الكيف بإقليم الحسيمة على إيقاع ساخن ينذر بفصول جديدة من الصراع بين «المخزن» ومزارعين، أغلبهم من الشباب، يشكل القنب الهندي مصدر عيشهم وجزءا لا يتجزأ من هويتهم الجماعية. في هذه الأجزاء من الريف، يختلط التاريخ بالجغرافيا، وتنصهر الخرافة مع الواقع، وتقابل التهمة بالتهمة المضادة، وحده الكيف يحفظ مكانه ك»حرفة» ورثها الأبناء عن الأجداد وبعدهم الأحفاد ولا يرون عنها عوضا في غياب بديل قد لا يأتي أبدا... تعيد «الصباح» من خلال زيارتها للمنطقة تشكيل سيناريو الأحداث التي عصفت بهدوء السكان وجعلتهم يعدون العدة لانتفاضة شعارها الوحيد الكيف مقابل الحياة... البراح يشعل النار... يحكي جمال (اسم مستعار)، وهو شاب في الثلاثينات من عمره تفاصيل رسالة البراح التي تحولت إلى لهيب أشعل شعور السكان ب»الحكرة» و»التهميش»، يضيف، وهو يراقب وجوها من حوله: «صدح البراح بصوته عاليا بحضور عونين للسلطة وسط مرتادي السوق الأسبوعي بأن القائد يخبرهم بأن عليهم وقف زراعة الكيف، ولما تحلق الجمع من حولهم للحصول على توضيحات حول ما يعنيه القائد بأمره، ضاعت الحقيقة...». البراح الذي اتخذ لنفسه ركنا قريبا من الباب الرئيسي للسوق وعونا السلطة برفقته طلبوا النجاة لأنفسهم من الحشود الغاضبة التي حاصرتهم من كل جانب،...ثم سرعان ما ذاع الخبر في الدواوير المجاورة فالتحقت أعداد إضافية من السكان خاصة من فئة الشباب بمقر القيادة والجماعة ومركز الدرك الملكي، ثم انطلقت بعد ذلك مسيرة عفوية نحو الطريق الوطنية الساحلية المطلة على مركز الجماعة. بعد فترة من الوقت، حلت تعزيزات من قوات الدرك الملكي والقوات المساعدة بالمنطقة، كان حينها بعض الشباب قد انهوا مهمة عرقلة السير نهائيا لعدة ساعات رغبة منهم في»استدراج» مخاطب يجدون عنه الجواب الشافي...توقع الجميع حدوث مواجهة مباشرة بعدما أشهرت قوات الأمن هراواتها في وجه المحتجين، ليرد عشرات الشباب بالصعود فوق هضبة مطلة على الطريق لاتخاذ وضعية أفضل للمعركة. يؤكد جمال أن والي الجهة كان من بين من التحق بالمحتجين من أجل محاولة إقناعهم بالعدول عن تصعيد الموقف مضيفا، وكأنه يرمي التهمة عن أبناء دواره: «لا أحد من مصلحته الدخول في مواجهة مباشرة مع قوات الأمن، ولكن المواجهة قد تكون مشروعة لو تعلق الأمر بقطع أرزاقنا، لا بديل إلا الكيف من أجل العيش، وقد نضطر لفعل أي شيء من أجل البقاء على قيد الحياة..». لتأكيد حماس جمال في وصفه للأحداث، كان لزاما الاستماع إلى أكثر من أربعين شابا آخر تحلقوا حول المقهى التي جلس فيها «الصحافي الضيف» في محاولة لتجميع الشهادات وتدقيق التفاصيل الناقصة حول سيناريو قد يتكرر في أي لحظة، وقد يؤدي إلى مواجهة ستخرج عن حدود السيطرة، وستكون نتائجها حارقة للجميع. استغلال انتخابوي إزاء واقعة «التبريحة» ينتصب السؤال المحير: من كلف القائد بتبليغ السكان بمنع زراعة الكيف أو حتى تقليص المساحات المزروعة، خاصة منها تلك الواقعة على أطراف الطريق، ومن سمح قبل ذلك باكتساح الكيف لمساحات شاسعة وسط أراضي الأوقاف في أغلبها، وكيف السبيل لحظر العشبة الخضراء دون تقديم بدائل، وهل تكفي البدائل لاختفاء الكيف من جبال الريف وجبالة؟ في الجهة المقابلة المعنية بهذه الأسئلة، كان القائد الحديث العهد بالمنطقة، غائبا عن مكتبه ولم يظهر له أثر بعد الذي حدث، على باب مقر القيادة، يعلق مرافقي بسخرية على صوت نباح يصدر من داخل سكن وضيفي، بالقول: «غادر القائد منذ يوم السبت نحو الرباط وترك كلبه ليتولى الحراسة نيابة عنه». قبالة مقر القيادة يوجد مقر الجماعة، بدوره لا يزوره الرئيس إلا لماما، «انه مستثمر منشغل بتسيير عقاراته في عدة مدن شمالية»، يضيف مرافقي، وهو يسرد سلسلة من المشاريع التي راكمها رئيس الجماعة وسجلاته الحافلة ب»الانجازات». الجواب لا يحتاج إلى عناء تفكير والأمر موكول إلى من بيده الحل، يقول مسؤول هو الوحيد الذي تمكنت «الصباح» من الحديث إليه بالمنطقة: « إن ما حدث بعد إعلان البراح في السوق لما نقله عن القائد لا يعنيننا، وتدخلنا لا يمكن لا يكون إلا لتنفيذ القانون وحماية أمن المواطنين». لا يود هذا المسؤول الإدلاء بأي توضيحات قد تدخله في متاهات، يأخذ هاتفه ويتصل برئيسه المباشر لإخباره بحيثيات سبقت وصول «صحافي» إلى مكتبه، بعدها يوجه الأنظار عن قصد نحو كاميرا مثبتة في الركن الأيمن من مكتبه للتأكيد على أن كل شخص يحل بمكتبه يتم تصويره...لكل غاية مفيدة؟؟، ثم يواصل الحديث بطريقة لا تخلو من مجاملة... يقر ابكسيرن الخضير، شيخ مقبل على الثمانينات من العمر (فاعل سياسي وجمعوي) أن «الجميع يتحمل المسؤولية، فالدولة عجزت مخططاتها وبرامجها عن وضع حد للظاهرة، إذ في غياب بدائل حقيقية من المستحيل إقناع السكان بالإقلاع عن زراعة الكيف، ثم يضيف « الأحزاب المغربية بدورها، خاصة اليسارية تتحمل مسؤولية تاريخية في ترك المنطقة تعيش تحت رحمة الكيف». خبر الخضير جيدا خصوصيات المنطقة لأنه ولد وترعرع في حضنها وعاش بين أهلها لعقود من الزمن، يخلص في حديثه عن ما جرى يوم السبت (26 دجنبر) بأن فيه رسالة لمن يهمه الأمر، وإنذار قوي للدولة بأنها ستواجه في غياب توفير البديل للسكان انتفاضة سيخسر فيها الجميع حكمة معالجة الوضع بعيدا عن ردود الفعل والقرارات المزاجية. يختم كلامه بنبرة لا تخلو من استياء « هناك جهات رغبت في الركوب على الأحداث لأسباب انتخابوية وسياسيوية لا علاقة لها بمصالح السكان»، وحين طلب منه التوضيح أكثر بخصوص هذه المسألة أجاب بلا تردد «اقصد بالتأكيد المحسوبين على حزب الاستقلال في المنطقة». لا ينكر أحد أن الكيف يلعب دورا محوريا في معادلة الربح والخسارة في الاستحقاقات الانتخابية، وتكاد لا تمر الحملات الدعائية في مثل هذه المناسبات دون تسجيل حوادث تفرضها طبيعة المنافسة الشديد بين أعيان المنطقة. البلاغ الذي أصدرته السلطات المحلية بعد هذه الأحداث لم يخرج عن هذا السياق، إذ لا يستبعد وقوف بعض الجهات التي لم تسمها بالاسم٬ لأسباب انتخابوية٬ وراء تأليب المواطنين ضد الحملات المنظمة حاليا للحد من الاعتداء على الملك الغابوي وضد زراعة القنب الهندي بالمنطقة. وتذهب الرواية الرسمية ابعد من ذلك، وتؤكد أن مجموعة من الأشخاص استغلت مناسبة إقامة السوق الأسبوعي لتحريض المواطنين على التوجه نحو مقري قيادة وجماعة بني أجميل للاحتجاج ضد الحملات التحسيسية التي تقوم بها حاليا السلطات العمومية من أجل الحد من الترامي والاعتداء على الملك الغابوي وضد زراعة القنب الهندي بالمنطقة. الكيف قبل كل شيء... تمتد حقول نبتة الكيف على مساحات واسعة فوق هضبات مكشوفة أو حتى على جوانب الطريق إلى داخل مركز جماعة بني أجميل، يؤكد السكان أن بعض المزارعين حاولوا تجريب مزروعات أخرى بديلة، لكنها لا يمكن أن تكون بديلا حقيقيا لا من ناحية مدخولها ولا من حيث ملاءمتها لطبيعة تضاريس المنطقة ومناخها. لقد جربوا في المناطق المعروفة بزراعة الكيف جميع أنواع المزروعات في إطار البحث عن زراعات بديلة، بدءا من أشجار الزيتون، وصولا إلى نبتة الزعفران، دون أن تلبي هذه المزروعات حاجات السكان ولا أن يتم تعميم التجربة، كما يشرح ذلك الخضير بحماس، و»اليوم، لا يمكن لقائد أو أي ممثل آخر للسلطة أن يشيع بين الناس قرارا مزلزلا بهذه الطريقة «التقليدية» أي عن طريق البراح، الأمر يحتاج، في نظري إلى قرار رسمي صادر عن جهة عليا، ولا بد أن يتم إخبار الجميع عن طريق قنوات الإذاعة والتلفزيون...». يحكي مختار (اسم مستعار) وهو قريب احد المحكومين بخمس سنوات سجنا من أجل الاتجار في الكيف، كيف تملك الجميع إحساس بالغبن و»الحكرة» بعد علمهم بقرار القائد الذي أعلنه البراح وسط السوق، لذلك «أحس السكان بأن من حقهم الاحتجاج بحثا عن مسؤول يدخلون معه في حوار مباشر»، فلا منع يتم بهذه الطريقة لمنتوج «يشكل عصب الحياة في المنطقة». لا يتوانى اغلب الشباب في اعتزازهم بالكيف باعتباره مخلصهم الوحيد من البطالة في غياب أي بديل آخر، البعض منهم يتمادى في الوصف تحت تأثير حالة الانتشاء بتدخين السجائر المحششة، إلى حد قول كلام اقرب إلى الشعر في حق «العشبة» التي تربطهم بها علاقة حب حميمي لا سبيل فيه للانفصال أو الافتراق تحت أي ظرف من الظروف». بالمقابل، يتفق سكان هذه المناطق على أن قدرهم أوجدهم في جغرافيا ما تزال تصنف في خانة «المغرب غير النافع»، وأيضا كان لموقع هذه الدواوير الأثر الكبير في انتشار الزراعة «المحظورة» بحقولهم، حيث تحده أقاليم ينتشر في قراها الكيف مثل مناطق كتامة والشاون وتركيست وبني عمارت وحتى بني بوفراح وأجزاء من بني حذيفة وأيت عبد الله التابعة لإقليم الحسيمة. محمد اعدي سعيد، شاب في عقده الثاني، يعترف بأن علاقة الشباب بزراعة الكيف تبررها عوامل موضوعية تتجلى في البطالة قبل كل شيء، فالمنطقة لا تتوفر على أي نشاط آخر مهما كان نوعه يمكنه توفير فرص الشغل البديلة. محمد، مثل عديدين من جيله، غادر حجرات المدرسة مبكرا وانخرط في أعمال تدر عليه مصروف الجيب، يؤكد أن تعامل السلطات مع المنطقة لا يتجاوز حدود المداهمات التي تتعرض لها المنازل باستمرار داخل الدواوير، أو اعتقال بعض ملاك الأراضي المزروعة بالكيف، أو في أحسن الحالات فان السلطة تتعامل بانتقائية في توجيه الاستدعاءات إلى مزارعين بعينهم دون سواهم... محمد، لا يمانع في أن يكشف عن هويته الحقيقية، «لا خوف إلا من الله» كما يقول، الآفاق منعدمة أمام مئات من الشباب الذين قرروا المكوث بالدواوير لممارسة نشاط ورثوه عن أجدادهم عنوانه «الكيف هو الحياة، الحياة مع الكيف». خوف ورعب يومي يعيشه المزارعون حالة خوف ورعب يومية يعيشها المزارعون الذين يتعاطون هذا النوع من الزراعة، يقول جعفر، شاب متعلم تتملكه الحسرة وهو يسرد تفاصيل من الحياة البئيسة للسكان، «فأنت هنا متهم من قبل الدرك، والقائد والمخازني والشيخ وحتى «بوغابة»، يتفق جعفر مع محمد على وصف المنطقة بأنها سجن كبير تطوقه الجبال و»المخزن» من كل جانب. لأول مرة تتاح أمام السكان فرصة الحديث بحرية إلى شخص أجنبي عن المنطقة، كهذا يلخص جعفر تلهف عشرات المتحلقين حول مراسل»الصباح» أملا في تمرير رسالتهم إلى من يهمهم الأمر. يضيف جعفر، وهو يشير إلى أحد الهضاب على الطريق إلى مدخل مركز الجماعة «علاقة السكان بالكيف علاقة حميمية، إنها تجري في الدم، رائحتها تستنشق مع الأكسجين، بالنسبة إلى الكثيرين العشبة مصدر للحياة، لذلك فمجرد إعلان خبر منع زراعة هذه النبتة أو تحريك متابعات في حق المزارعين كاف لزعزعة استقرار المنطقة». يختم مرافقي كلامه متسائلا: «من دون «الجدارمية» و»المخازنية» كرموز للسلطة لا أحد بادر إلى الدخول في حوار مع السكان لمعرفة مشاكلهم ومطالبهم، فالقائد كما ترى ( يشير الى مقر القيادة) غائب هذا اليوم عن عمله، ورئيس الجماعة يكاد لا يعرف إلا من خلال اسمه...هل بث الرعب في نفوس السكان هو الحل بالنسبة إلى الدولة لإجبار المزارعين على وقف زرع نبتة الكيف؟». تُزيح الشهادات التي قدمها عدد من الشباب بأسماء مستعارة، بعض الغموض الذي أصرّ جعفر على أن يتركه في روايته، ولمزيد من التدقيق، يقول كريم (اسم مستعار) إن «علاقة السكان مع المخزن لا يمكن إلا أن تكون متوترة، فقبل شهر تقريبا توفي جنين امرأة حامل بعدما فزعت من حلول قوات الأمن لمداهمة منزل تقطن به إلى جانب أسرتها»، ويضيف قائلا «العناصر نفسها تلجأ أحيانا إلى توجيه استدعاءات لبعض الأشخاص من أجل ابتزازهم أو حتى ترهيبهم، لا أحد يجرؤ على الحديث في مثل هذه المواضيع التي قد تجر المتاعب على الجميع»... ملاحقات لا تتوقف ما كشفه كريم ليس سرا خفيا، بقدْر ما هو وضع قديم يضع رموز «المخزن» في واجهة الاتهام كلما تم تشديد الحصار على زراعة الكيف، والحال أن مئات الهكتارات يتم استغلالها لزراعة الكيف وبشكل مكشوف وتحت أعين السلطات المختصة. تصب المعطيات التي استقتها «الصباح» في أغلبها، في محاولة توريط «بوغابة» (أعوان إدارة المياه والغابات) و»القايد» و»الجدارمية» و»المخازنية» في عمليات ابتزاز ممنهجة عبر استغلال حالة الخوف المنتشرة بين صفوف الفلاحين خصوصا الصغار، قد يتم ذلك بأي طريقة، وقد تلتقي مصلحة المزارع مع تواطؤ هذه الفئة من الموظفين ليستفيد أيضا من غض الطرف عن هذا النشاط الخارج عن القانون.