المنهزم إذا ابتسم أفقد المنتصر لذة الفوز.شكسبير سبق لي في مقال بعنوان" غرائب و استفهامات حول الثورة الليبية",أن قلت بأن الثورة الليبية,ثورة ليست كالثورات,ثورة الغرائب و العجائب بامتياز,حينها أنهيت مقالي ذاك بالتأكيد على أن الثورة الليبية ستأتي بجديد غرائبي و غير متوقع في قادم الأيام,فهاهو توقعي يصدق بعدما تحول المجرم الذي عذب و نكل و قتل وهجر الآلاف من الليبيين إلى بطل لا يضاهى أو على الأقل إلى ضحية كسبت تعاطف الملايين عبر العالم,نتيجة تصرفات طائشة و غير مسؤولة من قبل الثوار. لست هنا أدعي أني متنبيء أو عالم مستقبليات,ولكن بداية الثورة الليبية و ما تخللها من أحداث جعلتها-في نظري الخاص-,متميزة و متفردة عن بقية الثورات,إذ أن أكثر الناس تفاؤلا بالثورة لم يكونوا يتوقعون أن يثور الشعب الليبي,الذي عانى القهر و الخوف و الطغيان لأكثر من أربعين سنة من قبل القذافي و زبانيته بتلك الطريقة الشجاعة,التي قل نظيرها و جسد فيها الشعب الليبي أروع ملحمة في الوحدة و التضامن و الإقدام. و إذا كانت البداية كذلك غير متوقعة, فإن النهاية و لاشك كانت أكثر عجائبية و غرائبية و إثارة,حيث أن أعدى أعداء القذافي,لم يكونوا يتنبئون أن تكون خاتمته بتلك البشاعة,في المقابل نجد أن أكثر المتعاطفين و المدافعين عن الثورة-و أنا واحد منهم-,لم يكونوا يتوقعون أن تنتهي بهذا الشكل البشع,وأن يقع الطاغية الذي كان يضرب له ألف حساب,وكان مجرد ذكر اسمه في ليبيا يحتاج إلى "ماية تخميمة و تخميمة",أسيرا بيد الثوار يعبثون به كما شاؤوا و يتقاذفونه كدمية فيما بينهم. يجمع الكل خاصة المؤيدين و الداعمين للثورة ولو بقلوبهم,بأن الثوار لم يحسنوا التصرف في نهاية المباراة,حيث تصرفوا كذاك اللاعب الذي انتصر فريقه,لكنه فقد أعصابه و انضباطه في نهاية المقابلة فأفسد فرحة مشجعيه بتصرفات لا أخلاقية و غير معروفة عنه و لا مألوفة منه. عذرا يا أسود ليبيا نقولها لكم و بكل صراحة و بدون مجاملة,وإن كنتم أنتم أدرى بشعاب وطنكم,نقول لكم,لقد أسأتم التصرف في الوقت بدل الضائع,وجعلتم من المجرم الذي ذبح و عذب و سجن و قتل الآلاف و حرق المئات في الأفران و جيش مرتزقته لاغتصاب القاصرات الليبيات,جعلتم منه بطلا بدون منازع و ضحية تثير الشفقة,لقد قدمتم للقذافي خدمة جليلة من حيث لا تحتسبون,وعملتم على محو و مسح جرائمه البشعة التي اقترفتها يديه الملطخة بدماء آلاف الليبيين لأزيد من أربعة عقود,في حين صنعتم منه رمزا و بطلا في فيديوهات لا تتجاوز المدة الزمنية لأطولها الأربع دقائق. لقد قدمتم للقذافي خدمة جليلة في رمشة عين و في غفلة من التاريخ الذي نسي أو تناسى جرائمه التي يندى لها الجبين و يذوب لها القلب من كمد,وأعطيتم لأنصاره فرصة لطعنكم و النقض في نواياكم,فها نحن نرى ما أثارته الطريقة التي قتل بها من استهجان و استنكار و تنديد,ونرى كيف تغيرت نظرة الملايين عبر العالم من المؤيدين و الداعمين لكم و لثورتكم المجيدة ولو معنويا,من نظرة التأييد و النصرة,باعتباركم مدافعين عن شعب مقهور يقاوم الظلم و الاستبداد القذافيين,إلى نظرة اشمئزاز و تقزز,بل نظرة كراهية وحقد. لا يقدر مشاعر شاب بترت ساقه أو زوج مات أطفاله أو امرأة رملت و يتم أطفالها أو خادمة أحرق جسدها بالماء الساخن و لقيت شتى صنوف التعذيب أو شباب أعدموا حرقا بشكل جماعي في أفران خاصة أو سجناء مسالمون أبيدوا في سجن أبو سليم,وغيرها من الجرائم القذافية التي تعبر عن مدى قساوة و قسوة نظامه المستبد,إلا من عاش أو عايش مثل معاناتهم و لا يقدر تحمسهم للثأر و الانتقام من مجرم متغطرس طاغية,إلا من عانى و ذاق ويلات مثل ويلاتهم,ولكن ليس الثأر بتلك الطريقة البشعة,التي تظهر القذافي يئن و يتوسل كالطائر الجريح الذي لا حول له و لا قوة وهو في يد صياده,إلى درجة يخيل فيها أن القذافي بريء و ضحية,أو قل لدرجة يعتقد أن القذافي هو المنتصر و الثوار هم المنهزمون في نظر الكثيرين بمن فيهم الواقفون مع الثورة,فأي ضمير بشري سيقبل تلك اللقطة الحقيرة التي يظهر فيها أحد الثوار أو أحد المتطفلين عليهم و هو يقوم بغرز قضيب في مؤخرة القذافي؟ما محل هذا التصرف الشنيع من أخلاق الثوار؟ إن أكبر خطأ سقط فيه الثوار ليس هو قتل القذافي بحد ذاته ولكن إقدامهم على تصوير اللحظات الأخيرة من حياته وعرضها و إشهارها على الملايين,ملايين من الإنسانية-طبعا-,أو قل ملايين غلبت عليهم إنسانيتهم و عواطفهم على عقولهم في تلك اللحظات فأنساهم كل ذلك أن القذافي ظل لأكثر من أربعين سنة مجرما طاغية من الطراز الأول,كما أنساهم ذلك جميع أو بعض جرائمه المرتكبة في حق الإنسانية,فحولته تلك اللحظات الأخيرة إلى بطل من و جهة نظر إنسانية,و نسي العالم أنه كان مجرما حقيرا صال تيها و تعربد. لقد كان حريا بالثوار المتحمسين للثأر و الانتقام,أن يعدموه بعيدا عن الأنظار على الأقل و يمنعوا التصوير,فيريحوا الناس منه و من هذا اللغط و الضجة المثار حوله و يكملوا فرحة الملايين عبر العالم بفوز مستحق وغير منقوص,فوز قدمت لأجله أغلى التضحيات. كل ما تقدم يجعل الكثيرين يتساءلون عن مستقبل ليبيا الغد,هل ستتحول إلى ليبيا الديمقراطية و القانون,بعدما جعل منها القذافي ليبيا الاستبداد و الجحيم؟ أم ستتحول من إمبراطورية القذافي المستبدة إلى ليبيا "السيبة" و الفوضى باسم الثورة؟