حسن مفيد لم يكن مسموحاً للمغاربة التندر علنا بالرموز السياسية، لأن ذلك يُعرضهم للسجن أو لغلق المنابر التي تمزح، لذلك انتعشت النكتة السياسية في السر، وحُرم المغاربة لعقود من روح الدعابة والتفكه والظرف السياسي العلني..
لعل هذا ما دفع البعض إلى وصف المغاربة بأنهم "شعب حزين" أو "جاد" زيادة عن اللزوم، حتى اعتُبر مرح أهل البهجة بمثابة ذلك الاستثناء الذي لا يتكرر في المغرب، بعضهم يُرجع الأمر إلى قهر السلطة التي ظلت تُجَرم السخرية من الرموز السياسية لأنها كانت تدخل ضمن دائرة المقدس الذي لا يقبل المزاح، فيما ربط آخرون خُفوت السخرية السياسية بجو المحافظة التي ميزت المغاربة عبر تاريخهم، أو إلى سياق ثقافي وطني طغت عليه الثقافة الفقهية، وغابت عنه روح الدعابة والنقد المرح. لكن مع مجيء عبد الإله بن كيران إلى السلطة، تغيرت الأمور، فقد ازدهرت السخرية السياسية بشكل منقطع النظير، حيث فجر المغاربة طاقتهم المكبوتة في الظرف والتفكه، واسترجعوا حقهم في الضحك والتقشاب، حتى بدا كما لو أن روح السخرية الشعبية المختبئة قد انطلقت من عقالها وطفت فجأة على السطح، وساهم انتشار وسائط الاتصال الجماهيري وجو الحرية التي ارتفع منسوب صبيبها مع هبوب أولى نسائم الربيع العربي.. في انفلات روح الدعابة والتندر والضحك السياسي من صدر المغاربة. أضحى الفاعلون السياسيون، وعلى رأسهم عبد الإله بن كيران رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية، الموضوع المفضل للسخرية السياسية التي قادها جيل جديد من الشباب تصالح مع السياسة بطريقته الخاصة، وأصبح يتصدى لنقد الأوضاع الاجتماعية والسخرية من الخطابات المفارقة للفاعلين السياسيين. إلى عهد قريب كان الراحل الحسن الثاني، يؤكد أن الفصل 24 من الدستور السابق، يعطيه الحق في أن يعين من يشاء وزيراً أول ولا يفرض عليه هل يجب أن يعين وزيراً منتخباً حاز حزبه على الأغلبية من صناديق الاقتراع، وقال يوماً في خطاب شهير: "من حقي أن آتي بسائق سيارتي وأعينه وزيراً أول"، إن ذلك يدخل في جزء من الصلاحيات الدستورية للملك.. وفي بداية التسعينيات لما رفضت الكتلة العرض الملكي حول التناوب الأول الذي سيضمن لهم من خلاله أغلبية مريحة، وتحت إصرار زعماء المعارضة على تعيين الوزير الأول من أغلبية ناتجة عن صناديق الاقتراع، قال ادريس البصري لأمناء الكتلة الديمقراطية في شبه تهديد مبطن:" واشْ بْغِيتوا سيدنا يجيب الإسلاميين دياول عبد الكريم الخطيب للحكومة ؟" أي أن بن كيران وأصدقاءه كانوا بمثابة سابع المستحيلات تصورهم في حكومة مغربية كمشاركين فبالأحرى أن يصبح اليوم زعيمهم بن كيران- الذي كان حينها في بداية مشواره السياسي- رئيسا للحكومة.. لكن للتاريخ مكره الخاص، فقد عين الملك محمد السادس عبد الإله بن كيران - وفق احترام تام للدستور- رئيساً للحكومة.. طبعا الزمن غير الزمن، لذلك اعتبر البعض أن الصدفة وحدها قادت الرجل الملتحي إلى رئاسة الحكومة، فيما اعتبر آخرون أن الرجل نجح في أن يُنزل السياسة من السماء إلى الأرض، وتكلم لغة يفهمها الناس البسطاء ودغدغ مشاعر المحرومين بلغة المعارض وهو يمارس الحكم. كان الرهان كبيراً على مجيء عبد الإله بن كيران إلى الحكم..أحس المواطنون لأول مرة بأن أصواتهم لها مفعول قوي في المشهد السياسي، وذات تأثير في تشكيل الحكومة مما يسمح لهم بالقدرة على نقدها والحق في مراقبتها ومحاسبة أعضائها.. إن السلطة لأول مرة تولد من الأسفل وليس من الأعلى، حيث أحست الأمة، ولو لبرهة من الزمن، أنها مصدر توزيع الشرعيات... لكن الحلو ما يكملش! ضخم حزب العدالة والتنمية حلم الأغلبية من الشعب في تحقيق طفرة نوعية في الإصلاح وأنعش تعيينه آمال المغاربة في العيش الكريم، ورغم قصر عُمر تنصيب حكومة عبد الإله بن كيران، فإن تراكم الخيبات والحلول الفاشلة، جعلت عامة الناس لا تنظر بعين الرضى لحصيلة رئيس الحكومة الذي ساهم بشكل أوفر في قيادة المغاربة بشكل قسري إلى سعادة لم يعثروا عليها سوى في الخطابات غير الواقعية لأعضاء الحكومة، التي ضخمت أماني عامة المغاربة بشعبوية غريبة انقلبت سلباً على حصاد الحكومة الفعلي أمام إكراهات تدبير الشأن العام. ازدهر الظرف و التقشاب والشدان في الخصوم المتنافسين، وانتعشت السخرية السياسية بسبب تراكم فشل أمين عام حزب العدالة والتنمية في ترجمة وعوده الانتخابية التي نقلت مؤشر التنمية من 8 في المائة إلى أقل من 2.5 خلال سنة.. لم يبق الأمر حبيس عامة الناس، بل إن شظايا الخيبة مست حتى النخب التي ناصرت حزب العدالة والتنمية ولو أنها تتموقع على النقيض مما يوجد فيه الحزب المحافظ.. في هذا السياق يجب فهم ما عبر عنه المقاول يوسف التازي حين قال: "بدأت أفقد الأمل في حكومة بن كيران"! اتخذ الجيل الجديد من شباب شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ومبدعو الكاريكاتور من شخصية بن كيران رمزاً للسخرية
السياسية.. وتحول "المستر بين كيران" أو"المسيو بن كَران" إلى رمز لتفجير إبداعات المغاربة وإطلاق نكتهم وطرائفهم الساخرة. منذ استقباله من طرف الملك محمد السادس لتعيينه رئيساً للحكومة، رافقت السخرية السياسية عبد الإله بن كيران حول نكته "البايخة" – بتعبيره – للملك وعقدته مع ربطة العنق، حتى أن شباب الفايسبوك أخذوا يعلمون رئيس حكومتهم – كما لو في الدرس الابتدائي – كيف يربط "الكرافاط" حول عنقه، ومنهم من استعاد أغنية "الربطة الزغبية" لإسقاطها على علاقة بن كيران، الذي لم يكن قد اعتاد الحكم بعد، مع ربطة العنق. ومع توالي انزلاقاته، وخرجاته الإعلامية التي لم تكن دوماً موفقة، تحول رئيس الحكومة إلى شخصية سياسية مثيرة للضحك في الإعلام كما في البرلمان والساحات العامة أثناء إلقاء خطبه الحماسية التي لم تقض على الفساد، ولا حسَّنت من ظروف عيش عموم المغاربة، وفي الداخل كما في الخارج كما حدث في مؤتمر دايفوس، تفجرت ينابيع السخرية السياسية التي تتضمن خطاباً نقديا تجاه الآخر، إنه هنا مسؤول سياسي تحول إلى رمز للضحك والازدراء، مايسترو الأوركسترا الحكومي الذي نجح - إلى حد الآن – في شيء واحد هو أن يتحول إلى "كينيول" للسخرية ليس على المستوى المحلي فقط، لذلك طالب شباب الفايسبوك بإحلال بن كيران في التلفزيون خلال شهر رمضان، بدل السِّيتْكُومات البايخة للقناتين، ورفعوا شعار: "الشعب يريد.. بن كيران في رمضان". لقد حاول بن كيران أن يبني كل أمجاده على ما فرضته ظروف الربيع العربي الذي لم يساهم فيه لكنه استثمر نتائجه بشكل جيد ، وهو ما جعل شباب حركة 20 فبراير ينعتونه ب "الانتهازية السياسية"، ورصع الأمين العام لحزب العدالة والتنمية صورته بعناية فائقة في إطار أنيق: فهو الشخصية الشعبية المتواضعة، التلقائية، المحبوبة جماهيريا لأنه يتكلم لغة العامة ويُنعش آمالها في التغيير، لكن بشكل يقدم فيه نفسه كما لو أنه المهدي المنتظر! وإذا كانت السخرية هي قلب العالم المبهم لنرى له هيئة معقولة، فإن شباب مواقع الاتصال الاجتماعي سيتخذون من شخصية رئيس الحكومة "كينيولا" للتنكيت ومتكأ لتفجير المكبوت السياسي، كأنهم بانتقاداتهم اللاذعة للتجارب الفاشلة للسياسات العمومية غير المنصفة كما اختطها من توسموا فيه المنقذ من الظلال، يهمسون في آذان بن كيران: "نريد سياسات شعبية وقرارات جريئة تمس عامة الناس، لا خطابات مهدئة ولا شخصية سياسية شعبية تُلهي الناس عن آلامها وإحباطاتها، وتغطي على واقع الجد الذي دخله المجتمع منذ نشوء حركة 20 فبراير وإعلان خطاب 9 مارس والمصادقة على الدستورالجديد" تقول إحدى تعليقات الفايسبوكيين.. الفاعلين الجدد في المشهد السياسي. حين استقبله الملك محمد السادس، حاول بن كيران التغطية على مضمون ما راج في جلسة الاستقبال الملكي حين عُين رئيسا للحكومة وفق أحكام الدستور، بالحديث عن النكت الحامضة، وجعل من عقدته الشخصية مع ربطة العنق، عقدة كل المغاربة الذين لهم مشاكل قاهرة مع المعيش اليومي. في البداية، كان عموم المواطنين، في الهوامش المنسية خاصة، يتعاطفون مع زعيم البيجيدي، إنه يقدم لهم شخصية تنتمي لتربتهم، تقول الكلام المحتبس في حناجرهم، أحسوا أنه غيَّر لهم رؤيتهم للسياسي المتعالي الذي يَرْطن بلغة غريبة عنهم، ويتكلم عن مشاكل لا تعنيهم، لذلك فأينما حل رئيس الحكومة كانت ترتفع زغاريد المواطنين البسطاء حتى ولو في حفل عزاء.. لكن حين جاء بقرار الزيادة في أسعار المحروقات، ليُقنع عامة الناس بالانتصار لحياتهم عبر قيادتهم بشكل جماعي نحو المقصلة كشكل مقنع للسعادة! انقلب كل شيء وبدا أن وَهْم التغيير الذي بشر به بن كيران مجرد "سبع يام د يال المشماش".. ازدهرت السخرية لدى المغاربة الذي اقتنصوا لازمته المتكررة بشكل زائد عن اللزوم "فهمتيني وللااَّ"، فأصبح لابن كيران وجه إينشتاتن الذي له حِكَم ضد منطق الحكمة ذاتها، ولعمري تلك أقصى ميزات خطاب الباروديا للمغاربة في جمع فارق لما لا يُجمع من المتناقضات، أقصد حكمة إينشتاين وسذاجة بن كيران السياسية.. رغم أن الرجل أستاذ مادة الفيزياء! وجد رئيس الحكومة نفسه أمام واقع اقتصادي يعلو على الأحلام التي بشر بها المغاربة أثناء اللحظة الانتخابية التي جعلت حزبه يحصد نتائج جد متقدمة لم يكن يحلم بها، وجاءت قراراته ضد رغبات من صوَّتوا عليه، كانوا قد تاقوا بالنسب الخيالية للنمو، وبتوفير مناصب شغل لم تكن الميزانية العمومية تتحملها، لذلك جاء إلى التلفزيون بنغمة "les bananes" أو "الموز الرخيص، فهمتيني ولا لا"... هنا أيضا سيفجر الجيل الجديد من شباب مواقع الاتصال الجماهيري غضبه الفني على قرار زعيم حزب العدالة والتنمية، عبر إبراز صورة حمار يضرب رأسه مع الحائط، ويقول وهو يعض على أصابع الندم: "ندمت، ندمت علاش صوتت على العدالة والتنمية؟!"، إنها صورة مفارقة ترصد التناقضات الجلية بين وعد الخطاب المعسول لابن كيران والمنجز الذي أحبط آمال الكثيرين! وإذا كانت السخرية هي الضحك والازدراء من واقع مر، لأنها ضحك كالبكاء، في وَضْع ابتسامة "الرأس المشوط"، أو كما ظل يردد المتنبي: لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً فإن الطير ترقص من شدة الذبح إن النكتة السياسية هي خطاب نقدي يترصد - عبر اقتناص المنفلت - البنية العميقة للا مفكر فيه في خطاب وسلوك الفاعل السياسي، فحين تم الإعلان عن تشكيلة حكومة بن كيران، وبرز أنها لا تضم سوى امرأة واحدة هي بسيمة الحقاوي، مما يعكس ضرباً لمبدأ المناصفة في الدستور الذي ادعت الحكومة تنزيله بشكل سليم، وهو ما شكل انتصاراً للاوعي الذكوري البمتجذر في خطاب حزب العدالة والتنمية.. نكَّت شباب شبكات التواصل الاجتماعي على رئيس الحكومة، بأنه خاف أن لا يعدل بين تعدد النساء في حكومته، فاختار واحدة! بل إن بعضهم اعتبر أن المرأة الوحيدة في الحكومة الملتحية هي مذكر بصيغة التأنيث لأنها تحمل بين طياتها الفكر الذكوري للحزب الأصولي ولا تنتصر لفضاء فصيلة جنسها.. ولعمري يظل هذا أقصى نقد لحكومة بن كيران الملتحية مبنى ومعنى، والذي تكرر أكثر من مرة مع رئيس الحكومة نفسه الذي تحدث عن لغو "عيالات الحمام"، وهو ما أثار سخط كل الفعاليات النسائية للخطاب التحقيري المبطن لابن كيران للمرأة المغربية. المغاربة سخروا أيضا من بن كيران حين توجه للمعطلين بدعائه المشهور: "الرزق على الله"، وبدل أن يفرض الضرائب على الثروة والأثرياء فرضها على ذوي الدخل المتوسط، المنشطين الحيويين للدورة الاقتصادية، في ذات الحين عفا رئيس الحكومة عن المفسدين بقوله :"عفا الله عما سلف"، فتحول وزراء العدالة والتنمية إلى فرقة "عفا الله" نسبة للمسلسل الشهير للكوميدي المصري عادل إمام: "فرقة عطا الله"، وحين تضخم "أنا" رئيس الحكومة الذي لم يكن بعد قد تدرب على الاستئناس بالكرسي الوثير للحكم، وقبل أن ينتقل إلى المقر الناعم للوزارة الأولى بحي الأميرات، كان بن كيران قد توعد المفسدين بالجحيم ووعد المعطلين بنعيم الفرج والفقراء والمحرومين برفع معدل التنمية... فصوره شباب الفايسبوك على شكل هرقل "hercule" الذي لا يُقهر، أو على هيئة السوبرمان وأضحى "سوبر بن كيران" الذي وزع الوعود والأحلام السعيدة على المحرومين المغاربة الذين قادوه إلى نعيم السلطة، وهو غض لا يعي حقيقة صعوبة تدبير الشأن العام وإكراهاته.. لذلك حين أعْيَته الحيلة أخذ يُلقي باللائمة على قوى غيبية كالعفاريت والتماسيح.. وتسلح بنظرية المؤامرة بكون أن الآخرين، الذين لم يحددهم، هم الذين لا يتركونه يعمل ! لقد أخذت السخرية السياسية بالمغرب من شخصية بن كيران نموذجها المفضل، لذلك كان سحرها بارزا على صفحات الجرائد كما على صفحات وسائط الاتصال الاجتماعي كالفايسبوك والتويتر... كل ذلك أعاد للسخرية عنفوانها، والله يخلف على بن كيران الذي أصبح أُمَميا بفضل خطابه الشعبوي لدرجة اتخذته قناة "نسمة تي في" التونسية كينيولا في إحدى برامجها الناجحة. الهدهد