هل يستجيب الطفل للتجارب النفسية المعقدة التي تسببها الأحداث والكوارث الشخصية والعامة التي قد يواجهها في حياته اليومية بنفس القوة والطريقة التي يستجيب فيها والداه أو المقربون منه من المتواجدين في محيطه الاجتماعي الضيق لهذه الأحداث؟ أم أنه سيتبع أسلوباً وتقنية نفسية خاصة به على الرغم من محدودية تجربته في الحياة وصغر سنه؟ تطرقت بعض الأبحاث النفسية الحديثة إلى أن الأطفال يميلون إلى أن يستجيبوا بنسخة مطابقة من ردود الأفعال العاطفية تجاه الأحداث التي تحمل شحنة نفسية مؤثرة بالطريقة ذاتها التي يستجيب بها ذووهم لهذه الأحداث، إذ أن الأطفال لم يكونوا بعد قد طوروا قدرات ذاتية للاستجابة لمثل هذه الأحداث بردود فعل ذاتية وهم في سني الطفولة المبكرة، لذلك يكون جل اعتمادهم هو تبني ردود أفعال الكبار وتقليدها حرفياً من دون افساح المجال لمشاعرهم الذاتية للإفصاح عن نفسها. كما أن - في معظم الحالات- قد لا يكونون مدركين لطبيعة أو خطورة هذه الأحداث ما يجعلهم في حيرة من أمرهم بشأن السلوك الذي يجب أن يسلكوه… أو لمدى الخطأ أو الصواب في ما يحدث وبالتالي ما ينبغي فعله . ويرى علماء نفس السلوك أن ظاهرة التقليد هذه يمكن توظيفها بصورة صحيحة في توجيه سلوك الطفل وبناء شخصيته المستقبلية حتى خارج إطار هذه الأحداث، من حيث تعليمه المهارات اللازمة للحياة، كما تطرح هذه النظرية إمكانية صقل شخصية الطفل وجعله يتعامل بإيجابية مع الأحداث المحزنة التي سيواجهها في المستقبل وذلك بجعله مستعداً من الناحية النفسية للتصدي لمشاعر الحزن والخسارة التي تسببها أحداث ذات شحنة عاطفية قد تكون مدمرة مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية أو حوادث وفاة المقربين من الطفل. ومن ناحية أخرى، قد تكون ردود فعل الكبار -الأهل تحديداً- غير ملائمة للحدث وربما تكون مبالغا فيها أو غير مناسبة للموقف. في هذه الحالة ينعكس تأثيرها السلبي على الطفل في طريقة استجابته للمواقف ذاتها بنفس ردود الأفعال غير المناسبة. ولهذا يشدد متخصصون على أن يكون الأهل أكثر حذراً في طريقة تعاملهم مع المواقف المختلفة في حالة تواجد الطفل بالقرب منهم، حيث يتوجب عليهم اختيار الألفاظ المناسبة وعدم المبالغة في التعبير عن المشاعر سواء بحزن أو غضب أو حتى فرح مصطنع، لأن من شأن هذه التناقضات أن تربك الطفل وتجعله في موقف محرج بين أن يلجأ إلى تقليد أبويه تقليداً أعمى أو أن يتخذ ردود أفعال خاصة به، إذا كان ما يراه في قدوته سلوكا غير مناسب أو خاطئا من وجهة نظره. إلا أن المتعارف عليه أن الطفل يميل إلى تقليد سلوك الوالدين أو القدوة – المعلم أو رفيق اللعب أو البطل الأسطوري في السينما- حتى إذا كان على يقين بأنه سلوك خاطئ وغير مناسب، ويشكل هذا التقليد الأعمى العامل الأكثر خطورة في توجيه سلوك الطفل، والسبب في ذلك أن الطفل يرتبط عاطفياً بقدوته بالصورة التي تجعله يشعر بسعادة بالغة وهو يحاول أن يصل إلى نسخة مطابقة له، على الرغم من أن هذا السلوك المقلد قد لا يمثل بالضرورة طموح ورغباته الحقيقية. وعموما، يرى علم النفس الاجتماعي أن عملية التعلم تستند في الأساس إلى مبدأ تقليد الصغار للكبار الموجودين في محيطهم الاجتماعي. وهذا يشبه كثيراً الطريقة التي يتم من خلالها اكتساب المهارات اللازمة للتكيف واستمرار العيش في مجتمع الحيوانات. ولهذا يعتقد بعض علماء النفس بأن الطفل ربما يولد ولديه الخاصية الفطرية لتقليد الآخرين حتى قبل أن يتاح له اكتسابها بموجب تفاعله مع محيطه من خلال عملية النمو، لذلك يبدو الطفل – خاصة في السنوات الخمس الأولى من حياته - وكأنه مغرم بالتقليد حتى أنه يحاول أن يتشرب ملامح الشخص الذي يقلده بحركات يديه وطريقة مشيه وملامحه وربما نبرة صوته، حيث يرصد الطفل تصرفات المحيطين به ويختزنها في عقله ثم يكررها في الوقت المناسب على أنها سلوك خاص به من دون إضافات تذكر. والأشخاص الذين يميل الطفل إلى تقليدهم هم الأشخاص الذين يحبهم ويحترمهم بالطريقة التي يحاول معها التطبع بطباعهم وجعلهم قدوة له. ولعل أهم هؤلاء الأم والأب اللذان يحصل من خلالهما على مصادر سلوكه وردود أفعاله تجاه أحداث الحياة المختلفة، فيتعلم اللغة ومراعاة الآداب والتقاليد… ويتعلم كيف يستفيد من تجاربهما عبر سنوات خبرة ومران طويلين. لذلك يعد التقليد ضروريا للطفل لاكتساب التجارب الأساسية في سنوات طفولته المبكرة، لكن بعد أن يتقدم في نموه النفسي والعقلي… وينبغي تدريبه على أن يقيّم بناء حياته على أساس التجربة والإدراك الشخصيين، بحيث يساعده هذا في تعزيز قدرته على الابتكار والإبداع وتحقيق ذاته وصقل شخصيته المستقلة.