تستريح عند أقدام الجبال، كحجلة، مستكينة إلى رهبة القمم، تتمتع بأشيائها البسيطة، من الخشاش والنقع الغريب الذي يطفو في العصرية، تتأنق لتستقبل المساء، كله ليل، لكن ليس كباقي الليالي، حالك، سالك، متملك لها، رغم الأنوار الموقدة غصبا فوق أعمدة تطاول الهمم، لكنها الجبال يا خنيفرة.. هذه مدينة الرب، الموعودة بالرمل والزرع والغدير، ما من مدينة في بلادي، تشبهها، فوق هذه الباحة الضيقة المريحة، تستقر، منسية من البشر، يتذكرونها عند الحنين إلى أشياء موجودة في قراهم ومداشرهم وقصورهم، ولكن يودون استباحتها، فيقولون أنها ممتعة، لعلها مدينة الرب المنسية، أليست، مدينة الرب تشقها الوديان؟ وتطوقها الجبال، وتسرح فيها الغاشية؟ وتتعشى فيها البهائم دون أن يجف الوادي ولا تقفر البراري ودون أن تكل الريح العاتية.؟. مختلطة الأجناس، الذكور والنساء مكسوة بالوسخ، كالذهب المعفر بالتراب، كلما صهرته تنقى وارتقى، يعيش فيها، إلى جانب الناس الخناس، تستظلك كما لو كنت من رحمها، ولا تكاد تغفو حتى توقظك بلسعات الحر، لتأوي إلى إحدى المغارات، أو الفجاج القريبة، تغاسالين، أروكو، أكلمام أزغزا خنيفرة، المتناقضات، خنيفرة الطهر والعهر، سيان، والفجر والرهبنة في كل مكان، أئمة وغواني، شيخات وغلمان، مدينة مستباحة، وكأنها غنيمة التتار، وجوه المارة، ذهبية، وحمراء، وفي المساء تمتد الظلمة إلى الدروب، التي تشتغل فيها البسبسة، والعسعسة، وتنشط فيها العيون، وقرقعات الأقفال، التي تفتح القلاع الموصدة في النهار، فسكان الليل عشاق، وسكرة، ومومسات، ولصوص، وهوام، وحور عين، تتهادى في الساحة الكبيرة الشبيهة بساحة أثينا، ومسرح إسبرطة، الباقي في المدينة. لا تدري، عندما تستقر في مقهى، من يجالسك؟ ترى سكان الصين، والألمان، والمشارقة، فتسأل: من أخبر عنها الأقوام؟ وكيف لهذه الغريبة النائية أن تحتضن عابري سبيل؟ من أقصى سور الصين القديم إلى سكان نهر المانش الشبيه بنهر أم الربيع.. خنفرة.. لا تتورع من تقديم مائها، وكلائها، وعسل الزقوم المنتج في جباح الرذيلة، بين أفخاذ المنون، العذارى، هذه خنيفرة، مدينة الرب المنسية، المهملة، كانت ستكون موطن الملائكة، لكن اعترتها الذئاب، لأن كلابها خائنة، وساد فيها سماسرة العفونة، مع أن الجميع يعرف أنها مدينة الرب المنسية، في المدينة القديمة، مغارات، تكنى دور، وفيها من القاطنين يسمون بالبشر، عشرة غرف و أكثر، وفي كل غرفة بصر، يحملق فيك، يدعوك للمغادرة أو يرحب بك لتجزية وقت مريح بين الأرداف والحلمات.. [المساجد في المدينة، للرجال فقط، أما النساء ففي الشوارع والبيوت بشقين ويسقينك، أمامي إمرة بأسمال، تلبس عريا، تجر طفلا ضريرا لا يكف عن السب والشتم والركل في جسدها، جسد أمه، دليله الوحيد، يصرخ أمام عتبة المقهى "فيا الجوع" ونحن نحملق فيه، أي الجالسون في أرائك المقهى، لا نحرك ساكنا، يا لنا من جبناء.. بين الحين والأخر، تهدئه ألأم، لا يهدأ، فتصفعه صفعة جعلته يلف حول قدميه، يحاول أن يدافع عن نفسه، لكن هيهات، إنه لا يرى، فيلوح بسواعده ذات اليمن وذات الشمال، ربما يصيبها، وكأنه، بطواحين الهوى تلطمه وتتوارى، يصرخ، يدك الأرض بقدميه النحيفتين، ويمزق قميصه المهترئ، يتوسل أن تقترب منه أمه، وما أن تقترب، حتى يلكمها لكمة ظلت تفركها بيدها طيلة اليوم، فالولد مسموم، هكذا عقبت، قام أحد النبهاء، أمسك بالفتى، مده بدرهم، وبذيل أمه، وصار معا، وهي تدعي عليه بالموت، وتطلب من الرب أن يسلبها ابنها كما سلبها فرحها...