في سنة 2013، نشرت «المساء» تحقيقا صادما عن انتشار مرض «السيدا» في صفوف مومسات بالجماعة القروية «بومية» بإقليم ميدلت. تحركت السلطات، وشنت حملة واسعة على أوكار الدعارة، أسفرت عن هجرة جماعية لعاملات الجنس، قبل أن يعدن، بعد بضعة شهور، إلى أقدم «سيكتور» في المنطقة لاستئناف نشاطهن «المدر للدخل». «المساء» تأخذكم في رحلة عبر «خط الدعارة» بالأطلس المتوسط، انطلاقا من الحاجب وصولا إلى بومية، لنكتشف مآل الحملات التي استهدفت دور الدعارة في أشهر مراكز «تجارة جنس». قبل بضع سنوات، كانت العديد من الأحياء «الحمراء» في مدن وقرى الأطلس المتوسط تعيش من الدعارة. النساء كما الرجال يقتاتون من عرق الآخرين، ويظل هاجسهم من إشراقه الصباح إلى أن يرخي الليل سدوله هو استقطاب أكبر عدد من الباحثين عن اللذة، في انتظار يوم جديد يأتي لهذه الفئة من السكان بعيش وإن كان «غير كريم». لكن تحركات السلطات في مواجهات أشهر «البورديلات» سرعان ما أدت إلى هجرة جماعية لمومسات «ريد لايت ديستريكتس» الأطلسية، صوب مناطق لم تتمكن فيها السلطات من الحد من انتشار هذه «التجارة» النشيطة، التي تحولت مع مرور السنين إلى واقع اجتماعي يتعايش معه السكان، بل ويقاومون تدخل السلطة في عدد من البؤر السوداء. تقول خريطة الدعارة في البلاد إن محور الحاجب - خنيفرة يعد أحد «أسخن» المناطق التي اشتهرت بانتشار أحياء تقدم خدماتها الجنسية للباحثين عن اللذة، وبأفضل الأسعار. الحاجب، تيغسالين، أوطاط الحاج، خنيفرة، بومية وغيرها من المناطق كانت تشهد نشاطا اقتصاديا «منظما» لبائعات الهوى ومن يشتغلون في ميادين تشكل «أكسسوارات» أساسية لمن يريد إحياء السهر. في بعض المناطق التي اشتهرت بتجارة الجنس منذ حقبة الاستعمار، سارت اليوم الدعارة نشاطا «سريا»، يتم بعيدا عن أعين السلطات، بعدما كان إلى عهد قريب، يمارس بالواضح الفاضح. حملات بعضها كانت أمنية صرفة، وأخرى تحرك فيها مواطنون وصفوا بكونهم «لجانا شعبية» جاءت لمحاربة الفساد، كما هو حال مدينة «عين اللوح». لكن واقع عدد من المناطق لايزال على حاله، ومنها الجماعة القروية ل»بومية» التي عرفت هجرة جماعية لبائعات الجنس بعدما اهتزت على وقع انتشار مرض «السيدا» في صفوفهن. ولم تمض إلا بضعة شهور، هدأ معها صدى المرض الخبيث، حتى عاد حي «جاج إغرم»، المعروف في بومية ب»السيكتور»، إلى تقديم خدماته على أنقاض البؤس الاجتماعي الذي يعيشه سكان هذا الحي الفقير. الخط الساخن «خنيفرة.. مديلت.. أزرو.. إفران»، يردد «الكورتي» بمحطة الطاكسيات مكناس. كانت الساعة تشير إلى حوالي السابعة صباحا، لكن المكان بدأ يعج بالركاب المتوجهين نحو بعض مدن الأطلس المتوسط. عائلة مكونة من أربعة أفراد أثارت غضب السائق بسبب ترديدها نفس السؤال: «واش مزال هاد البلاصة مجات؟»، فما كان إلا أن رد بعدما نفد صبره: «سيرو للكار الله يرحم الوالدين». لم تمض إلا بضع دقائق حتى جاء الفرج. «هاهي بلاصة جات.. طريق السلامة»، قالها «الكورتي»، وهو يتوجه نحو السيارة لاستخلاص ثمن الرحلة من الركاب المتوجهين نحو مدينة إفران. انطلق السائق وهو يسابق الريح، بعدما هاتفه أحدهم طالبا منه الإسراع للظفر ب»كورسة» ركابها سياح يودون التوجه إلى إحدى المدن. «قوليهوم يتسناوني في الأوطيل، راه 1000 درهم للكورسة». شغل السائق مقطوعات أطلسية، تفاعل معها شاب يجلس إلى جانبه. بدأ الرجلان يحدثان بعضهما بالأمازيغية، قبل أن يتبادلا أرقام الهاتف. أما «المساء» فكانت أولى محطاتها في خط الدعارة بالأطلس المتوسط مدينة الحاجب. من هنا سننطلق، لننتقل إلى «تيغسالين» و»عين اللوح» و»بومية»، التي اشتهرت بتقديم خدماتها للباحثين عن اللذة. خط الدعارة بالأطلس المتوسط اشتهر بأحياء تقدم منذ عشرات السنين خدماتها لكل باحث عن اللذة، حتى أضحى بعضها يقاوم أي تدخل لمحاربتها، سواء من خلال «لوبيات» للحماية، كما يقول بعض الفاعلين، أو حتى من خلال إثارة القلاقل ونشر الجريمة في بعض النقط السوداء، وكأن السكان الذين يقتاتون من أقدم مهنة في التاريخ «يقايضون» السلطة بين غض الطرف عن ممارساتهم، أو نشر الجريمة. «اشتغلت في مكناس، والحاجبوخنيفرة، قبل أن يستقر بي المقام في بومية»، تقول خديجة، إحدى المومسات، في لقائها مع «المساء». هذه الشابة المتحدرة من منطقة مولاي ابراهيم قرب مراكش بدأت عملها في المنطقة منذ 6 سنوات، رغم أن مردود الدعارة تراجع بشكل كبير. «يقولون عنا إننا مصابات بالسيدا، وبالتالي فعدد من الزبناء توقفوا عن زيارتنا، وانخفضت مداخيلنا بشكل كبير، وفي المقابل ليس لدينا أي بديل حقيقي». تضيف خديجة هامسة بصوت متحشرج، يخنق آهات جرح عميق. ادفع وادخل «ادفع وادخل» كانت عبارة اشتهر بها عدد من أحياء الدعارة، وعلى رأسها مدينة الحاجب، التي كانت قبلة للباحثين عن اللذة، قبل أن تشن السلطات حملة واسعة النطاق اضطرت معها كثير من عاملات الجنس إلى الهجرة، قبل أن تنتعش الظاهرة من جديدة، حسب نشطاء في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان. أولى شرارات الحملة التي ستقودها السلطات انطلقت بفضيحة فجرتها إحدى العاهرات، التي كانت قيد «الاعتقال» من طرف «مشغلتها» بأحد أحياء المدينة. خرجت إلى الشارع عارية تماما، بعدما تمكنت من الفرار من قبضة مشغلتها، قبل أن تصل إلى أياد آمنة، في مخفر الدرك الملكي. هنا بدأت السلطات حملة قوية، وصلت ذروتها سنة 2008 عندما وضعت حدا بشكل كامل لأحياء الدعارة أو «السيكتورات» وتحول النشاط إلى مجرد ممارسات «سرية». لكن الوضع لم يدم طويلا، حسب بعض النشطاء الحقوقيين، الذين بدؤوا يتحدثون عن عودة انتشار أحياء الدعارة في المدينة. فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أصدر تقريرا سنة 2013 تحدث فيه عن عودة انتشار دور الدعارة بالمدينة، إذ أكد أنه بعد زيارات ميدانية لأماكن انتشار دور البغاء، تأكد جليا أنها بدأت تنمو كالفطر، وذلك على مرأى ومسمع من الجهات المسؤولة، وسجل، على سبيل المثال، وقوفه على صور لبائعات الهوى يعرضن أجسادهن في واضحة النهار للراغبين في اقتناء قسط من شهوة الجنس. ومن المؤشرات الخطيرة التي وقفت عليها الجمعية هو أن الظاهرة تعتبر مصدرا لخلق أزمات اجتماعية تنخر الأخلاق والقيم، حيث عرفت المدينة خلال شهرين فقط تسجيل سبع حالات ولادة غير شرعية. وتحدث التقرير عن ظهور بعض الأباطرة الذين يقتاتون منها ويستغلونها كمشتل للأصوات الانتخابية. لوبي الدعارة مصطفى المعلمي، رئيس فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، كشف في تصريح ل»المساء»، أن الظاهرة ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى حقبة الاستعمار، ناهيك عن ارتباطها بإشكالية الفقر. «غير أن الدعارة في الحاجب أضحت اليوم مرتبطة بحيين سكنيين في المدينة، ومع أن السلطات شنت حملة تطهيرية فإن عددا من ممتهنات الجنس عدن إلى الاشتغال في هذين الحيين»، يقول الفاعل الجمعوي. وأوضح في هذا السياق: «طبعا الأمور لم تعد بادية للعيان مثلما كان يقع في السابق، زيادة على أن الحيين الذين مازالا يعرفان انتشار الدعارة يتوفران على لوبي كبير، ورغم أن الجهاز الأمني يقوم بحملات تطهيرية فإنه سرعان ما تعود الأمور إلى طبيعتها، وبالتالي فهذا العمل لا تصبح له أي جدوى». واعتبر أن هذه الظاهرة تنعش أيضا الاقتصاد المحلي، إذ تتحرك عدد من القطاعات كالجزارة وبيع الخضر «وهناك أيضا مسألة مهمة وهي أن المنازل في تلك الأحياء سعر كرائها مرتفع جدا، رغم أنها ليست ديارا راقية، وبالتالي فهناك لوبي لا يستطيع أحد أن يقضي عليه». المعلمي قال إن هناك طرقا للتحايل على القضاء، منها أن هناك عائلات متزوجة تحول بيوتها إلى أوكار للدعارة، «وما ثم فحتى عندما يأتي الأمن لإيقافهم فسيصرخ الزوج في وجههم بأن ذلك الشخص (الزبون) هو صديقه وأنه جاء ليقضي بعض الوقت معه، وبالتالي فقد أصبح الأمر ظاهرة ثقافية، وهاته الفئة من المجتمع لها قيمها الخاصة، ولا تعتبر ذلك ضربا للقيم أو شيئا من ذلك، بل يعتبرون المسألة عادية داخل العائلة». تصريحات مصطفى المعلمي حملناها وعلامات الاستفهام تفرخ بعضها، ونحن نتوجه إلى سيارة الأجرة التي ستقلنا نحو «تيغسالين»، القرية التي هزت عرش القضاء المغربي، وورطت مسؤولين في «فضائح جنسية». غسيل تيغسالين قبل بضع سنوات هزت «تيغسالين»، القرية الأطلسية الهادئة، البلاد بفضيحة أشرطة جنسية تورط فيها مسؤولون في القضاء والدرك، بعدما سربت ابنة القرية «رقية أبو علي» مشاهد جنسية، حاولت استعمالها كسلاح لحماية نفسها. تبعد تيغسالين عن خنيفرة بنحو 15 كيلومترا، لكنها ظلت لسنين خارج تفكير من يهندسون لتنمية المنطقة، إلى حين تفجر قضية «رقية أبو علي». «إذاك فقط بدأ المسؤولون يتحركون، فشنوا حملات قوية، وحركوا شيئا من المياه الراكدة في القرية، ليجد الناس مصدرا للعيش غير تجارة الجنس»، يقول أحد أبناء الإقليم. لم تكن تيغسالين معروفة بشيء غير تجارة «اللحوم البيضاء». فضائح مسؤولين كبار استنفرت أقلام العشرات من الصحافيين، للانطلاق نحو القرية والنبش في أغوار قضية احتلت الصفحات الأولى للصحف والمجلات، قبل أن تغرق القرية مرة في غياهب النسيان. «لا يستيطع أي واحد أن يقول إنه استطاع أن يقضي على الدعارة، لكنها على الأقل أصبحت في وضع تعرفه الكثير من المدن والمناطق في المغرب، أي لم تعد لدينا أحياء أو كما نسميها «سيكتورات» بل أصبحت هذه الممارسات تتم بشكل سري.. فالجميع يعلم أن هناك عاهرات لكنهن على الأقل لا يشتغلن بشكل مفضوح». يربط بعض سكان المنطقة انتشار الدعارة بعوامل تاريخية، وأخرى مرتبطة بانعدام الاهتمام بمناطق كثيرة في الأطلس المتوسط، ومنها جماعة «تيغسالين». يقول محدثنا باستهزاء شديد: «أشرطة أبو علي كشفت أن المسؤولين كانوا فعلا يأتون إلى تيغسالين، لكن فقط للبحث عن الملذات، أما التنمية فذلك آخر ما كانوا يفكرون فيه». لجان عين اللوح إذا كانت بعض المدن والقرى في الأطلس المتوسط شهدت حملات أمنية مكن بعضها من الإنهاء مع ظاهرة الدعارة في صيغتها «المنظمة»، فإن مدينة عين اللوح، القريبة من آزرو، شهدت نوعا آخر من مواجهة السكان لهذه الظاهرة.. إنها حملات «التنسيقية المحلية لمحاربة الفساد»، أو كما فضل بعضهم أن يسميها «اللجان الشعبية». عين اللوح، التي تفجرت فيها قبل سنوات فضيحة التنصير التي تعرض لها أطفال المنطقة، عادت سنة 2012 لتتصدر صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية الوطنية والدولية، إذ نشرت جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية تحقيقا ربطت فيه بين محاربة الدعارة بالمنطقة وتداعيات الربيع العربي، حتى إنها شبهت «عين اللوح بمنطقة «ريد لايت ديستريكت» في «أمستردام. طبعا كل ذلك قبل حملة «الإسلاميين»، حسب توصيف الجريدة. عمل «التنسيقية المحلية لمحاربة الفساد» لقي ردود فعل متباينة من طرف السكان، وصلت تفاعلاتها إلى القضاء، حيث ووجه متهمون باحتضان أوكار الدعارة مع أعضاء في التنسيقية الذين اتهموا بالاعتداء على بعض المنازل التي يفترض أنها كانت أوكارا للدعارة. لكن أعضاء التنسيقية ينفون ذلك بالمطلق ويؤكدون أن ما وقع لم يكن سوى محاولة لتخويف السكان الذين تحركوا للانعتاق من هذه الظاهرة. عدد من الأحياء التي نشرت عنها فيديوهات توثق لمشاهد الشباب وهم يلجون منازلها دون استئذان، أضحت بعد تلك العمليات التي دشنتها السلطات، بفضل تعاون التنسيقية على حد تعبير أعضائها، أحياء مهجورة بعدما غادرت كثير من المومسات منازلهن المكتراة، وانطلقن في رحلة البحث عن زبائن جدد في الخط الساخن للأطلس المتوسط. «لقد حاربونا بقوة، واليوم أصبحنا نشتغل خلسة لأن السلطات تتعامل بصرامة معنا»، تقول فاطمة، عاملة جنس في حديث ل»المساء». صورة فاطمة لا تختلف عن زميلاتها في كثير من مدن وقرى الأطلس. تطل من شرفة المنزل في ثياب شفافة، واضعة مساحيق تجميل في محاولة لحجب ملامح وجهها الذي أخذ لونا أسمر داكنا، رغم أن سنها لا يتجاوز الثلاثين. «الزمان صعيب، راه كنت كانطيح 1000 درهم فالنهار، دابا إيلا جبت غير باش نعيش نحمد الله»، تضيف فاطمة، التي عبرت في البداية عن خوفها من الحديث إلينا، «لأننا ولينا محضيين»، على حد تعبيرها. في عين اللوح أضحت الدعارة تمارس في شكلها «العادي» كما وصفها أحد السكان، إذ لم تعد هناك أحياء تقدم هذه الخدمات بالواضح الفاضح، بل تتم هذه الممارسات بشكل سري كما هو الشأن بالنسبة إلى مختلف المدن. «طبعا لا يمكن أن نقول إننا حاربنا الدعارة، لكننا قمنا بمحاربة تلك الأوكار التي كانت تثير استياء عموم السكان»، يوضح أحد سكان عين اللوح. اقتصاد الدعارة قبل الحملة التي شنتها سلطات المدينة على دور الدعارة، كانت عين اللوح تنتعش من اقتصاد قائم الذات. فالدعارة لم تكن مورد العيش الوحيد، بل كانت تنتعش معه عدد من المحلات التجارية والمطاعم الشعبية، ناهيك عن انتعاش تجارة المخدرات والخمر ومختلف «ألأكسسوارات» التي تؤثث فضاءات ممارسة الجنس. لكن ما تؤكده المعطيات التي استقتها «المساء» من فاعلين انخرطوا في حملة «التنسيقية المحلية لمحاربة الفساد»، هو أن كثيرا من الأسر التي كانت إلى عهد قريب تقتات من الدعارة، أضحت اليوم مطالبة بالبحث عن مورد رزق جديد، بعدما تمكن السكان من اجتثاث هذه الظاهرة. بوشعيب فراطي، عضو تنسيقية محاربة الفساد، أوضح ل»المساء»، أن الوضع، منذ العمل الذي باشرته التنسيقية إلى جانب السلطات، انتقل من حسن إلى أحسن، لكن الإشكال الأساسي الذي تواجهه عين اللوح مرتبط بتنمية المنطقة، على اعتبار أنها كانت تعتمد بشكل كبير على هذه الظاهرة، «غير أنه في المقابل، فعين اللوح أصبحت من أنظف المناطق»، على حد تعبيره. وأوضح أن الإشكال اليوم مرتبط بالبديل الذي يجب إيجاده مقابل محاربة هذه الظاهرة. وأضاف في هذا السياق: «هناك مشاريع مدرة للدخل لإعانة مجموعة من الحالات، لكن إمكانيات المجتمع المدني تبقى محدودة، وهنا يجب أن يتدخل المسؤولون من أجل التقدم بمبادرات». واقع ترد عليه خديجة، عاملة جنس تمارس نشاطها خلسة عن السلطات، بأن المدينة أصبحت تعرف كسادا حقيقيا، ليس فقط في ما يخص تجارة الجنس ولكن أيضا في ما يخص عددا من الأصعدة. «قبل مايديرو الحملة كان عليهوم يفكروا فينا، ويلقاو لينا فين نخدمو ماشي يشردونا»، تقول خديجة، بنبرة ملؤها الغضب. هذه الشابة القادمة من مدينة ميسور أكدت ل»المساء» أنها تحاول الانخراط في بعض المشاريع الصغيرة لإيجاد بديل للدعارة، لكن عين اللوح تعرف كسادا اقتصاديا كبيرا، خاصة وأن القدرة الشرائية للمواطنين تظل محدودة، مما يستلزم ضرورة تدخل الجهات المسؤولة لإنقاذ كثير من النساء اللواتي وجدن أنفسهن في وضعية عطالة مفاجئة. سيكتور بومية التحقيق الذي باشرناه في عدد من مدن وقرى الأطلس المتوسط كشف بالملموس تفاوتات في تعاطي السلطات مع إشكالية الدعارة التي لاتزال «منظمة» في عدد من المناطق. فإذا كانت بعض المدن والقرى قد شهدت حملات أدت إلى القضاء بشكل تام عن «البورديلات» أو»السكتورات»، فإن مناطق أخرى لاتزال تعيش من تجارة الأجساد الذابلة. قبل سنة ونصف، نشرت جريدة «المساء» تحقيقا حول انتشار مرض «السيدا» في صفوف العديد من عاملات الجنس بمنطقة «بومية»، بل ووصل الداء إلى أسرة صغيرة في منطقة قريبة من القرية. في ذلك الوقت، تحركت السلطات بقوة لمحاربة «سكتور جاج إرغم»، الذي كان رمزا للدعارة المنظمة في الجماعة القروية الصغيرة. نتائج هذا التحرك كانت متباينة. فإذا كانت السلطات قد دفعت بالعشرات من عاملات الجنس إلى مغادرة المنطقة، بالنظر إلى أنهن لا ينحدرن من بومية، فإن أخريات فضلن اللجوء إلى أحياء أخرى واكتراء بعض المنازل البسيطة في انتظار أن تنتهي الحملة، ويعود الرواج إلى اقتصاد تجارة الجنس. خلال زيارتنا لبومية، لإنجاز ذلك التحقيق، صرحت العديد من عاملات الجنس اللواتي كن يستعدن لمغادرة المنطقة، بأن تجارة الجنس في بومية انتهت وأن لاشيء أصبح يبرر بقاءهن في القرية، خاصة بعد انتشار إصابتهن بمرض السيدا، مما أصاب الزبناء بحالة من الذعر. أما فاطمة، عاملة الجنس الشهيرة في القرية، فقد هددت بنشر مرض «السيدا» المصابة به في مناطق أخرى إذا لم تتدخل الجهات المسؤولة لوضع حد لوضعها الاجتماعي المزري، وتوفير المسكن والغذاء. هذه السيدة خرجت في أحد الأيام تصرخ في الشارع العام بكل ما أوتيت من قوة، تهدد وتتوعد، قبل أن تتدخل بعض الجمعيات لإنقاذها ولو إلى حين. اليوم، عاد الوضع إلى ما كان عليه. عدنا إلى «بومية»، وفي مخيلتنا أن «جاج إرغم» أو «السيكتور» انغمس سكانه في شيء آخر غير تجارة الجنس، بعد الحملة التي شنتها السلطات، فكانت المفاجأة. تجارة الجنس عادت بقوة، إذ انتشرت «البورديلات» من جديد. نساء وفتيات في مقتبل العمر يعرضن أجسادهن في أزقة الحي الضيقة. أجي نقوليك وأنت تهم بدخول «جاج إغرم»، تستقبلك عيون متربصة بزوار المكان. نساء وفتيات افترشن الأرض في انتظار من يأتي من الزبائن، فيما انهمكت إحداهن في ملاسنات مع شاب، يفترض أنه زبون مثير للقلاقل، وهي تطالبه بالكف عن زيارتها وهو في حالة سكر. «أجي نقوليك».. رددتها إحداهن مخاطبة صحافي «المساء»، قبل أن ندخل في نقاش حول خلفيات عودة تجارة الجنس إلى القرية. كانت زهيرة، القادمة من مدينة ورزازات، تدخن بشراهة لفافة مخدر الشيرا، وهي تراقب الوافدين على مركز تجارة الجنس في المنطقة. تحدثت إلينا زهيرة بنبرة حزينة، تتخللها قهقهات مصطنعة، تحمل ألما لواقع ليس باليسير، وعندما سألناها عن مردودها من هذه «المهنة» وإمكانية وجود شغل آخر ردت قائلة: «شتي بنادم هنا إيلا دبر غير ما يكمي وما يشرب راه بيخير، راه خاص يعطيونا باش نخدمو ماشي نبداو نسعاو». توقفت متحدثة لصديقتها، التي همست في أذنها تحذيرات من الحديث إلينا، قبل أن تنفجر في وجهها قائلة «أش غادي يوقع كاع»، وعادت مسترسلة في دردشتها مع «المساء»: «أنا خاصني الصرف راه عندي بنتي وعندي مالين الدار، إيلا كانت شي خدمة ديال 50 ألف في الشهر، والله حتى نمشي»، قبل أن تضيف بحزن: «إيلا كنتي مزوج غادي تحس بيا». هنا تختلط معاني المأساة بين زهيرة وباقي زميلاتها و»منافساتها» في المهنة. فزيادة على كون تجارة الدعارة في المنطقة تدخل ضمن قائمة «الجنس الرخيص»، حيث تنطلق الأسعار من 10 دراهم وقد لا تتجاوزن الأربعين أو الخمسين درهما، فمومسات «جاج إرغم» يعانين من الاعتداءات التي يتعرضن لها من طرف بعض «الشماكرية» الذين يتربصون بهن. أين البديل؟ خلال زيارتنا إلى جاج إرغم، ضربنا موعدا مع إحدى العاملات التي سبق أن التقيناها في التحقيق الذي سبق أن نشرناه حول انتشار مرض «السيدا». الشيء الوحيد الذي تغير، حسب المتحدثة ذاتها، هو تعامل السلطات الذي لم يعد بالحزم نفسه. «أنا اشتغلت هنا في بومية منذ 7 سنوات، ليس فقط في الدعارة ولكن في ضيعات التفاح والمقاهي، لكن عملي الأساسي هو الدعارة»، تقول أمينة (اسم مستعار) في لقائها مع «المساء». ثم أضافت قائلة: «كاينة اللي عندها خمس وست فتيات يشتغلن، وكن يتعرضن للإيقاف من طرف السلطات، وعندما يذهبن إلى القضاء يؤدين كفالة». تقول فاطمة إن «أصحاب الجمعية»، في إشارة إلى بعض الفعاليات التي تحركت السنة الماضية لإثارة الانتباه لإشكالية الدعارة، «مابقاوش كايهضرو دابا». بالنسبة إلى عاملة الجنس نفسها هناك نوع من التمييز في التعاطي مع المشتغلات في هذا الحي، بل ويتم التعامل أحيانا بنوع من الانتقائية، إذ يتم استهداف بعضهم والتغاضي عن ممارسات أخريات. لكن واقع منطقة بومية، التي تعيش ركودا اقتصاديا قاسيا، وارتفاعا في معدلات البطالة، يؤكد بالملموس محدودية المقاربة الأمنية في معالجة هذا الإشكال الذي أضحت تعاني منه المنطقة، بل وتتعايش معه بعض الأسر التي يقول أبناء بومية إنها ليست منحدرة من المنطقة بل قادمة من مدن وقرى بعيدة. سعيد أحبار، رئيس الشبكة الأولى للجمعيات المحلية ببومية، أوضح ل»المساء» أن «مندوبية الصحة لم تسجل هذه السنة حالات جديدة وهو شيء إيجابي جدا، لكن الدعارة في بومية استمرت والخطير أنها أصبحت مُمأسسة ومحمية، وهو الأمر الذي أصبح يؤدي إلى انتشار الجريمة، والمخدرات بما فيها القرقوبي، حيث سجلت حالة شاب خرج إلى الشارع في حالة هيجان يهدد المارة». وأوضح سعيد أنه عندما أثيرت قضية «السيدا» وبدأ الناس يتحدثون عن حالات وتضارب في الأرقام، أدى ذلك إلى هجرة ممتهنات الجنس لأن أغلبهن يأتين من مناطق أخرى، لكن ذلك كان مثل سحابة صيف، فعندما خفت ذلك الموضوع عادت الدعارة إلى المنطقة. واعتبر الفاعل الجمعوي أن أوكار الدعارة المنتشرة سببها الرئيسي هو غض الطرف من طرف السلطات المحلية، وهو ما يطرح السؤال عن عدم قيام الجهات المسؤولة بأدوارها المنوطة بها، خاصة أن الظاهرة تروج لإشكاليات أخرى من قبيل بيع الخمور والمخدرات في واضحة النهار، وأن الجرائم التي تقع مرتبطة بهذه الأوكار. ورغم كل ذلك، فإن جمعيات «بومية»، يقول سعيد، تحركت لإيجاد بعض البدائل. يقول رئيس شبكة المجتمع المدني: «الجمعيات تحركت لإيجاد مشاريع في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وترافعنا أمام السلطات الإقليمية، وهو ما أثمر مجموعة من المشاريع المدرة للدخل خاصة بالنساء في وضعية هشاشة، فهناك الآن ما يناهز 40 امرأة يشتغلن في إنتاج الكسكس والحلويات والنسيج». بيد أن هذه التحركات، على أهميتها، تظل محدودة أمام غياب بديل حقيقي ينقذ هذه الفئة من المواطنات من واقع اجتماعي عسير.. في بومية والحاجب وتيغسالين وغيرها من المدن والقرى الأطلسية، تفجرت الأسئلة حول تراجيديا الدعارة الرخيصة في أحياء لاتزال تعشش فيها تجارة «الرقيق الأبيض» في معتقل بلا قضبان، سجناؤه فتيات في مقتبل العمر ونساء حكمت عليهن الأقدار أن يعشن من العبث بأجسادهن. «الله غالب حتى واحد مكايبغي يبيع لحمو»، قالتها إحداهن في حديثها ل»المساء».