تمتلئ المقاهي عن أخرها لمشاهدة مباريات كرة القدم التي يجريها المنتخب الوطني لكرة القدم ومباريات البطولات الأوربية خاصة الاسبانية منها،وتكثر التحليلات والقراءات ويتحول الكثير من المغاربة إلى متخصصين في الجال ورغن أن بعضهم لم تطأ قدماه ملعبا لكرة القدم في يوم من الأيام ،ويتفاعلون مع أداء اللاعبين بحماسية غير متناهية ،تكسر الكؤوس والمقاعد ،يكثر الصفير والقذف والسب بمعجم نابي يمتح كلماته من مجالس المشرذين واللصوص وجلسات بعض من رجال الشرطة لدينا أثناء استنطاق المتهمين. يعيش المغاربة المدمنين على مشاهدة مباريات كرة القدم لحظات انتشاء فريدة من نوعها و يتعالون عن واقعهم الملموس لمدة ساعة ونصف ويحلون في الشاشات الصغيرة ،تقل الحركة في الشوارع والأزقة ،ترتاح الفتيات من معاكسات الشبان وتخف حركة السير في الطرقات ، كل ذلك يقع لمشاهدة لعبة تجني من ورائها لوبيات خاصة أرباحا تقدر بالملايير ومقابل هذه الأرباح هناك من يبحث طيلة اليوم عن المبلغ المالي الذي سيدفعه للنادل أو يفكر في توفيره يومين قبل المباراة ، أضف إلى ذلك مئات الأطفال الصغار الذين يشاهدون المباريات خلف الذين حالفهم الحظ للجلوس على كراسي قد لا تكون مريحة في كثير من الأحيان . رغم أن المنتخب الوطني لكرة القدم في السنوات الأخيرة يعيش على واقع أزمة عنوانها البارز تلك النتائج السلبية التي حصدها في المباريات الأخيرة نجد أن المغاربة لم يفقدوا الأمل ويتابعون منتخبهم بنفس الحماسية بل ويعتبرون تشجيعه واجبا وطنيا ومن أولوية الأولويات، والدليل أن أي انتصار مهما كانت نتيجته يخرج ألاف المغارية إلى الشوارع للاحتفال بتشجيع واضح من السلطات العمومية ، لكن الهزائم المتتالية لم تخرج المتظاهرين للشارع في يوم من الأيام بل أن غضبهم يتم تعويضه في تكسير بعض المقاعد في المدرجات أو الامتناع عن الأكل والشرب، في هذه النقطة بالذات يستفيد المخزن فعوض أن نتظاهر احتجاجا على راتب كيريتس الخيالي ونشكل قوة ضاغطة عليه للمضي قدما في الإصلاح نجد شبيحة كرة القدم تلتزم الصمت عوض التظاهر في لحظات حاسمة جدا وقد تحدث الخبراء مثلا عن الدور الذي لعبه انتصار المغرب على الجزائر في مراكش في السنة في إخماد نار الاحتجاج التي غزت الشوارع المغربية بعد تأسيس حركة 20 فبراير. لا مشكلة لذي في مشاهدة مباراة لكرة القدم من أجل الاستمتاع بلحظات إبداعية من إنجاز لاعبين محترفين أثناء مداعبتهم للكرة لكن ما يثيرني هو أن الكثير من المغاربة عندما يشاهدون مباريات كرة القدم ينسون كل مشاكلهم ولا يناقشون أسعار المواد الغذائية التي ارتفعت لا يلتفتون إلى خرجات المهرج بنكيران الذي شوه منصب رئيس الوزراء بتعامله غير اللبق مع وسائل الإعلام أو مع أسئلة النواب والذي اعتبر الزيادة في أسعار المحروقات قرارا شجاعا،وهمهم الوحيد هو معرفة أثمان صفقات انتقال اللاعبين في الأندية الأوربية، المستفيد الأول من هذه النكسة التي تعيشها كرة القدم المغربية هو المخزن الذي يستغل انشغال الذكور في مشاهدة كرة القدم في المقاهي والمدرجات ومشاهدة النساء للمسلسلات التركية والمكسيكية المدبلجة على الشاشات الصغيرة ليمرر مخططات الامبريالية المتوحشة كمشروع القطار السريع . ففي الوقت الذي تنتظر فيه كل القوى الديمقراطية الساعية إلى تغيير حقيقي في المغرب المزيد من الانخراط الواعي في الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب في السنتين الأخيرتين للفئات الشعبية الأكثر فقرا، نجد أن المخزن تمكن بسبب آلته الإعلامية ومناهجه التعليمية وسياسته الترهيبية والقمعية (الأحكام الجائرة التي صدرت في حق المحتجين في تازة والحسيمة والدار البضاء ) من تحويل اهتمامات الشعب من مشاكل اليومي إلى مباريات كرة القدم وعلاقات العشق والغرام بين أبطال المسلسلات المدبلجة. استطاع النظام المخزني أن ينمط ميولات الطبقات الفقيرة والفئة الوسطى وجعلها منغمسة في وهم التحول الديمقراطي والعهد الجديد عن طريق فتح الباب أمام الشركات الاحتكارية لاستغلال الثروات الوطنية دون حسيب أو رقيب . ولو نزلنا للشارع وطرحنا سؤالين الأول حول نتجية المبارة الأخيرة للمنتخب الوطني والثاني حول مقدار الزيادة في سعر البنزين ستكون الإجابات صحيحة بنسبة كبيرة عن السؤال الأول مقارنة مع إجابات السؤال الثاني رغم أن الأول يهم جيوب اللاعبين والمدرب والثاني يهم جيوب المستجوبين أنفسهم. يساهم في تكريس هذا السلوكات غير الواعية لدى جزء هام المغاربة ما يمكن أن نسميه بالإعلام الديني الذي يدخل بالمواطن إلى دوامة من الغيبيات ويدعوه إلى ضرورة تأجيل كل لحظات الفرح والسعادة إلى الحياة الأخرى الدائمة والأبدية، والرضي بالقضاء والقدر خيره وشره بما فيه ظلم الحكام.هذه التصورات الرجعية الظلامية للحياة التي تنشر يوميا تجعل المواطن كائنا سلبيا في الحياة ينتظر فقط لحظة وفاته لكي يعوض ما فاته في دنيا الحرمان والخضوع .وينتج عنه أيضا كبح كل سلوكات الاحتجاج ما دام أن الحياة لحظة عابرة وبالتالي لا حاجة للسعي لعيشها بسعادة . يمر المغرب من لحظة تاريخية حاسمة تتحمل فيها كل القوى الديمقراطية مسؤوليتها في تأطير الشباب وأي تهاون في هذا الجانب سيجعلها أمام مساءلة الأجيال القادمة عن المغرب الذي ستورثها إياه ،مغرب لا أريده أن ينتهي ب "ستان" لأنه في الحقيقة هناك من يسعى في العلن والخفاء لأن يكون كذلك .