من كان يعتقد أن إحراق شاب تونسي نكرة إسمه البوعزيزي سيشعل نارا حامية بدأت تلتهم بشره عجيب تلابيب ستائر القصور المحروسة وتأكل سواري وركائز أنظمة الحكم القمعية بشمال إفريقيا وقد تدفعها رياح الشبكة الإفتراضية نحو بلاطات ملوك وأمراء ورؤساء الشرق الأوسط لتتساقط اوراقهم تباعا في هذا الشتاء الساخن جدا. قبل يوم استشهاد محمد البوعزيزي في حارته المهمشة بسيدي بوزيد وسط تونس قليلون من تنبه للغليان الشبابي الذي كان يخترق الشبكة العنكبوتية من شواطئ المحيط الأطلسي إلى شطآن الخليج العربفارسي بل كثيرون إستهزؤوا من هذا النضال الإفتراضي واعتبروه مجالا لتفريغ المكبوتات بدءا بالجنسية منها وانتهاء بالسياسية بأقل خسارة على المجتمع وعلى أنظمة الإستبداد على الخصوص . لكن المفاجآت تأتي من حيث لاينتظرون . الطبيعة لاتقبل الفراغ خاصة في مخاضات المجتمعات التي تشبه مسارات البراكين في تحركاتها وفجائية إنفجارها . قبل 20 سنة كانت التنظيمات الحزبية والجمعوية الإطارات الوحيدة الممكنة لتفريغ اندفاعات الشباب والتعبير عن هواجسهم وآمالهم المناقضة في أغلب الأحيان مع رهانات نخب متواطئة أو مستقيلة من الفعل النضالي اليومي , لذلك عمدت انظمة السمسرة الإمبريالية لاحتواء تلك التنظيمات بتدجينها أو قمعها حتى تحكم إغلاق فوهة بركان اعتقدته ميتا لتستحوذ على ماتبقى من ثروات شعوبها بصمت وتقتل اي بدرة تمرد أوعصيان بكاتمات الصوت للأبد . فتخلو لها الساحة لتمرح وتلهو كيف شاءت وتحول شعوبها إلى جيش من العبيد والخدم لادور لهم في الحياة إلا طاعة الأسياد و تلبية رغبات الحكام الأكثر جنونية . لكن الأنظمة المستبدة هي دائما غبية بالفطرة لذلك فهي تخلق , من فرط جشعها للمزيد من جمع الثروات , شروط موتها من حيث لاتشعر . أسالت عائدات الخوصصة لعابها فتنافست في بيع مؤسسات الإتصال الجديدة كالهاتف والإنترنيت للشركات المتعددة الإستطيان لأنها غير قادرة على خلق بنية تحتية تكنولوجية ذاتية لمسايرة سرعة تداول المعلومة . وهكذا فقدت سيطرتها على أخطر أسلحة القرن 21 وهي المعلومة . وضع إلتقطته الشبيبة التواقة لكل ماهو جديد لترفعه سلاحا ينتشلها من براثين أنظمة متحجرة هرمة ومتسلطة . ورغم حداثة الولوج إلى الأنترنيت في الدول العربية ومحدودية القادرين على الإستفادة من خدماته, أقل من مليوني مشترك في المغرب مثلا , فقد استطاع أن يكون الأداة التنظيمية الأولى لدى الشباب الشريحة الأوسع في هرم سكان تلك الدول وتحول الجميع إلى صحافيين من دون معاهد. إحترق جسد محمد البوعزيزي فوق عربته احتجاجا على كرامته الممرغة في وحل نظام بن علي وترك بذكاء رسالة قصيرة لأمه على صفحته الخاصة بالفايس بوك كوصية اخيرة كان مفعولها مع صورة احتراقه مزلزلا تناقلته الهواتف المنقولة و المواقع والمنتديات بسرعة البرق فكانت الشرارة التي ستشعل ما سيصبح أولى ثورات القرن الواحد والعشرين بكل خصائصها الجديدة ومميزات عواملها المحركة والمنسقة التي اعتمدت على سرعة التحرك وقوة التأثير . عوامل اربكت بيروقراطية أجهزة النظام التونسي ولم تترك له مجالا للمناورة والتخطيط لرد مضاد وتلك مميزات الحروب الذكية حروب القرن 21 . أمام ذهول العالم سقط الطاغية التونسي في ظرف أربعة أسابيع وفر كأي لص يحاصره أهل المنزل المسروق لينجو بجسده وهو الذي ظل يتلقى تصنيفات المنظمات الدولية بكل غرور و التي تضع ضيعته تونس في مقدمة الدول العربية في مجالات التنمية والتنافسية الإقتصادية والإستقرار السياسي . وبسقوطه المدوي خرجت كتيبة الثوار الجدد من مخابئها نحو ضوء الحرية ليرموا كل تكهنات الخبراء ومنظمات وسماسرة التقارير و ليلهموا صناع التغيير والحالمين بغد آخر ممكن في كل أرجاء العالم . وهاهم جماهير مصر المحروسة يزحفون على واحد من أكثر الأنظمة دموية والتي سيؤرخ لرئيسها مبارك أنه الزعيم الوحيد في العالم الذي ظل قانون الطوارئ يسري على شعبه طوال حكمه الذي امتد لثلاثة عقود كاملة . لقد حل اخيرا ماكانت جماهير مابين المحيط والخليج تنتظره منذ الإستقلالات المشوهة . حلت مواسم قطف رؤوس الأنطمة الشمولية التي أينعت حتى تخمجت أوردتها وتصلبت شرايينها . لم يعد السؤال بعد اليوم هو هل سيسقط الحاكم المتسلط الفلاني أم سيحتفظ بحكمه وينجو من الإعصار المدمر بل متى سيأتي عليه الدور لأن الشعوب العربية بالدرجة الأولى وجدت أن المهدي المنتظر في متخيلها الجمعي القادم ليخلصها من العبودية لم سوى تكنولوجيا التواصل الموضوعة في منزله كأي إناء مع أخذ جرعات كافية مضادة للخوف قبل الجلوس أمام جهاز الحاسوب . [email protected]