قد يكون تسرّعا قراءة الثورتيْن، التونسية والمصرية، وتداعيات كل منها على الإقليم وعلاقاته الدولية، إن كانت هذه القراءة تتعلّق بالأسباب أو المسار أو النتائج أو التداعيات، فكل ذلك أعمق من قراءة حدث لم يمُر عليه سوى أسابيع أو أيام قليلة، وإن كان حدثا جللا زلْزَل منطقةً بأكملِها . ما حصل في تونس من احتجاجات شعبية استمرت 23 يوما أسفرت عن فرار الرئيس زين العابدين بن علي، يوم لجأ إلى جدة، وما شهدته شوارع العاصمة المصرية القاهرة، وخاصة ميدان التحرير وبقية المُدن المصرية من احتجاجات مماثلة على مدى 17 يوما، أجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحِّي عن الرئاسة والاختفاء في مكان مجهول، كإعلان لسقوط نظامه، لم يكن فقط بسبب الاحتجاج على حرق شاب تونسي نفسه بعد إهانته في مركز البلدية وأيضا ليس لأن شبابا مصريين تواصَلوا عبْر موقع " الفايس بوك " على الإنترنت، بقدر ما كان البلَدان يعرفان، كل بظروفه، شعورا عميقا بالظلم والقهر، سببه نظام ديكتاتوري، عمَّر طويلا في الحكم، وفقر مدقَع سببه فساد الطبقة الحاكمة وسوء التدبير . عوامل الثورتين، التونسية والمصرية، متوفرة في النظام السياسي العربي، تختلف درجتها وبشاعتها، لكنها عوامل موحّدة لهذا النظام، الذي لم يقرأ جيدا تحوّلات سياسية عالمية جرت قبل عقدين من الزمن في أوروبا الشرقية أو تحولات حديثة جرت في أمريكا اللاتينية وآسيا وحتى في الكثير من الدول الإفريقية، نقلت هذه البلدان من عالم النظام الشمولي إلى التعدّدي ومن الانغلاق إلى الانفتاح والشفافية ومن الأبدية بالحُكم إلى التداول السِّلمي للسلطة ومن مؤسسات مغشوشة ومشكّك في مصداقيتها إلى مؤسسات مُنتَخبة محترمة وتحظى بالثقة والمصداقية . وقائع أساسية محدِّدة ويقول المفكر المغربي عبد الله ساعف، إن ما وقع في تونس ومصر يشكِّل وقائع كبرى وأساسية محدِّدة (بكسر الدال) للحاضر والمستقبل، كما أن دلالات ما جرى، تتجاوز المنطقة العربية، لتُلقي بظلالها على الإقليم والعالم بأسْره، لِما للمنطقة العربية وتطوّراتها ومساراها من تأثيرات عالمية، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا . ساعف في قراءة أولية ل " سويس أنفو " لمسار الثورتيْن، التونسية والمصرية، يصل إلى أنه، ولأول مرة وبغضِّ النظر عن تفاصيل كثيرة، تشكل العاطفة وردود الفعل ضدّ تنظيمات ومؤسسات محدّدة، السبب المباشر لاندلاع الثورة، مثل التهميش أو البطالة أو الفقر أو ارتفاع الأسعار، لكن الأساس أن هناك، بالإضافة إلى الإحساس بالقهر والظلم والحرمان من التظلم وعدم الاستجابة لتطلّعات المواطن، صيْرورة مبنية على موقف عقلاني ومُستميت ومُمتد زمنيا، يبرز عندما تقع أحداث مثل التي وقعت في تونس ومصر، لتسائل عقودا طويلة من الحكم المغلق والمقفول ويصبح مدى المواجهة غير محدود الآفاق. فأنصاف الحلول لا تُقبَل والعروض بالتنازلات الجزئية تُرفَض والترقيع لا يُناقَش . ويرى عبد الله ساعف، وهو رئيس مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية وأستاذ بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الأسابيع الماضية كشفت أن العقلية تبدّلت وأن وقائع جديدة لم يكُن الحاكم وأجهِزته، وحتى النخبة السياسية، قادرة على تلمسها وتلمس قوتها، بالإضافة إلى وعْي عربي باللاعودة إلى ما قبل الثورة التونسية وانتصار الثورة المصرية، لأن مَن أعلن الثورة وقادها وحقّق أهدافها الأولية (سقوط النظام)، قوة خارج إطار المؤسسات وخارج القوة التقليدية ونجحت في تحييد الجيش ووضعه في موقف الحياد في البداية، ثم الانحياز لاختيارات الشعب . صيرورة مواطنة وصراع على الشرعية ويقترح المفكر المغربي أن الشباب الذين شكَّلوا مِحور الثورة، لم يكونوا وحدهم وأيضا لم يكن مُمكنا أنتنتصر ثورتهم لَولا أن عموم المواطنين (نساء ورجال وشيوخ وشبان من كل الطبقات والفئات) التَحقوا بالثورة لتُصبح صيْرورة مواطنة والصِّراع على الشرعية من خلال مكان أو فضاء، رمزا لكل الوطن (شارع الحبيب بورقيبة في تونس وميدان التحرير في القاهرة)، وليحتضن هذا الفضاء بصمود واستماتة ورفع سقف المطالب لإسقاط النظام والقضاء على الفساد وإقامة الدولة الديمقراطية والعدالة والمساواة والشفافية، في مقابل رتابة حُكم وبُطء في اتخاذ القرار ومعزول حتى عن أصدقائه التقليديين وانسداد الأفق أمامه وبحث أفراد الفئة الحاكمة عن حل أو فرار فردي . هذه الحالة في شارع بورقيبة وميدان التحرير، خلقت تحالفات لم تكن ممكنة قبل اندلاع الثورة، تحالفات قوى سياسية كانت متنافسة ومتصارعة، لتشكِّل كتلة تاريخية (قومية إسلامية، قومية ماركسية - ليبرالية)، ليس من خلال هيكل أو إطار أو مفاوضات تفرز مواقع على ضوء ميزان القوى، بل من خلال ذَوَبان الجميع في الشارع والميدان، شعارات موحَّدة وهدف موحَّد، مقابل تفكك الفاعل السياسي، الذي كان الورقة السياسية بِيَد النظام (الحزب الدستوري والحزب الوطني)، هذا الفاعل سقط قبل المواجهة وغاب، وإلى جانب هذا الفاعل السياسي، هناك أحزاب كانت جزءا من المشهد السياسي للنظام (معارِضة أو موالية قريبة أو بعيدة)، لكنها فقدت تأثيرها الحقيقي في المجتمع . ويرى ساعف أن انهيار هذه الهياكل السياسية، يعود أساسا إلى أن النظام السياسي أفرغ الحياة السياسية من معناها وخلق حوله الفراغ بتفكيك الوسائط والقنوات الوسطية، ليخلق نظام الحزب الواحد وخلق اللاتسيس الممزوج بالاستبداد. وحين اندلعت الثورة من قوة غيْر معروفة وغير ظاهرة للعِيان وغير متحزِّبة، فقَد المحاور الذي يمكن أن يقدم خلال المرحلة الأولى تنازلات أو يقبل بحلول تفرضها موازين القوى في المرحلة الأولى، لكن عندما بدأ النظام بطرح الحلول الجزئية أو الترقيع، كان يقدمها للقوى فاقدة التأثير فلم تجِد صدىً في الشارع أو الميدان الذي ذهب للأقصى . احتجاج وقلق في العالم العربي ويبقى انتشار فيروس ثورة الديمقراطية في النظام العربي، مِحور اهتمام صانعي السياسة العرب أو العالم، بعد أن أصبح بالنسبة لساعف، ممكنا لتوفر صيْرورات المعبر عنها في عدة شروط، مجتمعية اقتصادية وثقافية. (يقول ساعف إن خبيرا إسبانيا أبلغه أن السفارة الإسبانية بالجزائر أحصت خلال سنة 2010 أكثر من 8 ألف احتجاج، أحيانا عنيفا (ثورة صغيرة انتفاضة محدودة) متفرقة مكانا وزمانا. وحسب نفس الخبير، فإن دولا عربية أخرى شهدت حالات احتجاجات مماثلة، وإن كانت بأعداد أقل . هذه الاحتجاجات ليس بالضرورة أن تؤدي بشكل آلي إلى ما حدث في تونس ومصر، لكن السائد أن هناك حالة احتجاج وقلق في المجتمع العربي، مقابل تجاهلٍ من طرف النظام الحاكم وتوغُّل في القمع أو الفساد وسوء الإدارة، دون جهود حقيقية وملموسة للحدّ من هذه الآفات والانطلاق نحو إصلاحات حقيقية، تلبي وتستجيب لاحتياجات المواطن، وفاقدة القدرة على استشراف المستقبل في ظِل ثورة حقيقة في الاتصال والتواصل بين فئات مجتمعية، دون أن يكون للأجهزة القُدرة على السيطرة عليها ومراقبتها . ولا ينفي المفكر المغربي وجود تأثير للتطوّرات العالمية على نجاح الثورة في تونس ومصر والدّفع بالتطور الديمقراطي في بقية الدول العربية، خاصة بعد خطاب الأمة للرئيس الأمريكي باراك أوباما عن فسخ الإرهاب عن الإسلام وأزاح الإرهاب من رأس قائمة علاقاته الدولية، وكأنه إعادة صياغة للتصور الإستراتيجي الأمريكي من جهة، وساهم بشكل غير مباشر في الصيْرورات، وإن كانت منطلقاتها داخلية . على صعيد المنطقة العربية كدول، يعتقد ساعف أن الحكم بالسودان قد يدفع ثمنا باهظا لانفصال الجنوب، الذي وقع في لحظة غيبوبة عربية، وكذلك سوريا التي أصبحت ملكية خلسة، حسب تعبير ساعف. أما بالنسبة لليمن، فإن هشاشة الوِحدة الوطنية، بعد تعثُّر إقامة دولة الوحدة وانتعاش حالات التمرّد (الحوثيين والقاعدة)، يجعله قابلا لاستقبال فيروس الثورة، بدون أن تكون لديه مناعة كافية. وكذلك دول الخليج، فإن ما تقوم به الآن من (رشوة المواطنين) في ظل دولة الرفاه والقبلية الريعية في ظل ليبرالية اقتصادية، دون حريات سياسية من تكوين الأحزاب ونقابات وحرية تعبير والمساواة، لم يعد كافيا للمواطن الخليجي الذي يريد علاقة مع الدولة علاقة مواطنة، وليست علاقة زبونية . كان الدكتور عبد الله ساعف يتحدث ل " سويس أنفو " والتقارير تتحدّث عن المظاهرات التي شهدتها العاصمة الجزائرية، ويعتقد أن الوضع الجزائري يختلف من حيث أن الجيش في الجزائر، هو النظام ويتحكَّم في بقية مؤسسات الدولة. وبالنسبة لموريتانيا، فإن الهشاشة التي أظهرتها خلال السنوات الماضية وفشلها في انتقال ديمقراطي يضمن انتخابات نزيهة وديمقراطية يضعها أمام مِحك تطوير تجرِبتها وتحرير السلطة من الجيش، هو العنوان الأبرز لهذا التطوير . "الفراغ السياسي من الجسد المجتمعي يقتل النظام السياسي" ويضع ساعف كلاّ من المغرب والأردن في درجة واحدة، من حيث وصول رياح ثورتَيْ الياسمين والفُل، نتيجة نهج البلدان، مسارات سياسية مختلفة وعرفت حِراكا ونجحت بنِسب متفاوتة في الدخول بمسلسل ديمقراطي قبل إكراهات المرحلة الحالية، إن كان بإصلاحات سياسية متوافق عليها أو بانتخابات تشريعية ومحلية في مواعيدها وانفتاح في ميدان حقوق الإنسان والحريات، وإن كان بجرعات أو على مراحل . غير أن ما ينتظر البلديْن، الكثير من حيث تطوير ما أنجِز ليُصبح متوافقا مع العصر الجديد، خاصة وأن نموذج تونس بن علي أو نموذج (التونسة)، الذي كان في مخيِّلة الكثير من النُّخب السياسية، إن كان في استلهام نهج التنمية الاقتصادية والاجتماعية بدون حريات وديمقراطية أو في هيمنة الحزب الواحد وتهميش باقي الفاعلين السياسيين ودفعهم للتبعِية له، إن كانوا موجودين، دون أن يتصور أن الفراغ السياسي من الجسد المجتمعي يقتل النظام السياسي. وإسقاط النظام التونسي اسقَط النموذج، وبالتالي، من المنطقي أن تعود الحيوية والحِراك السياسييْن إلى الجسد المجتمعي . ويتحدّث عبد الله ساعف عن نقاش صاخب عرفه مؤتمر برشلونة 2 (سنة 2005) حول فكرة إنشاء مجموعة مندمجة لدول الديمقراطية على ضفَّتيْ البحر المتوسط، وهو ما رفضته مصر وتونس تحديدا وعبَّرا عن غضبهما لموافقة المغرب على الفكرة واعتبراه تدخُّلا في الشؤون الداخلية وضغط أوروبي، لكن الآن على المغرب أن يدرك إلى أين وصلت تونس ومصر خلال أسابيع، مما سيرفع سقف المطالبات بالإصلاحات السياسية والدستورية . ويربط المفكر المغربي بين الديمقراطية والاندماج المغربي، ويشير إلى أن اتحاد المغرب العربي 1989 تأسّس بعد تطوُّر ديمقراطي عرفته تونسوالجزائر والمغرب، وأن ما جرى من تطوّر في تونس ومصر وما سيحدثه من تطوّر بالجزائر والمغرب، سيعيد روح المغرب العربي إلى جسد المنطقة وسيدفع بالضرورة في انفتاح مغربي جزائري ينعكِس إيجابا على نزاع الصحراء المُؤرِق للمنطقة . يؤكِّد ساعف أن تلك خلاصة منطقية، لكن السياسة في كثير من الأحيان تذهب باتجاه حسابات خاطئة تدفع الشعوب ثمنها . * سويس أنفو