غالبية دول المنطقة يقودها ديكتاتور وحزب حاكم ينفرد بالسلطة... لكنها لم تنتفض. مصر تعاني من قمع ومن جوع ومن فساد ولديها أحزاب ونقابات وسبقت الجميع في توظيف الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في التحركات المطلبية... لكن شوارعها لم تعرف الثورة من زمان. إيران جربت الثورة الخضراء على الثورة الإسلامية أكثر من مرة من دون أن تحدث التغيير . ليبيا تعاني أكثر بكثير من جارتها الغربية، لكنها هامدة كصحرائها الكبرى. المغرب وموريتانيا وسوريا معظم سكانها من الشباب الذي يواجه البطالة المزرية وضيق نفس الحرية، لكنها أيضا لم تتحرك. إذن لماذا في تونس ؟ الدولة التي نالت أفضل علامات التقدير في الغرب ، واقتصادها حر ومنفتح وسياحتها نشطة ، وحياتها الثقافية مزدهرة ، وحقوق المرأة فيها مصانة وكثيرة ، ومعدل النساء في برلمانها ومجالسها التمثيلية يقارب مثيله في فرنسا وبريطانيا ، بالذات هي التي خرجت إلى الشوارع ، بالذات هي التي تنتفض وتنتصر انتفاضتها ؟ . ما حدث في البلد الأخضر ليس انتفاضة من داخل النظام على رأسه ، ذلك أن أركان هذا المحفل الحاكم مجرد موظفين برتبة وزراء أو مسؤولين ولا يتقنون سوى القدرة على مدح ولي نعمتهم فخامة الرئيس ولا طاقة لهم حتى على التفكير بالارتداد على سيدهم ، ولا هو انقلاب عسكري وان كان الجيش التحق متأخرا بالمنتفضين حتى لا ينقسم على نفسه ويهمش ، ولا هو من فعل أحزاب المعارضة فهذه شظايا أحزاب ، وكانت في مواقع جد ضعيفة لا بل كانت منشغلة بالصراعات في داخلها وفي ما بينها . وحتما ليست ثورة دينية قادها رجال الدين وأئمة المساجد كما حدث في الثورة الإيرانية أو كما حاول البعض فعله في الجزائر. تونس أحدثت قبل أي شيء ثورة في الفهم وسننتظر وقتا طويلا حتى نفهم ما حصل وكيف تمكن البلد الصغير من تحطيم التقاليد وإرساء واقع جديد . ليست الحكومة التي أعلنها أمس رئيس الوزراء القديم - الجديد هي الحل ولا هي التي قادت التغيير ولن تكون المستقبل الموعود ، فالثورة لم تكن فقط ضد زين العابدين ، بل ضد محمد الغنوشي أيضا وضد الوزراء الذين أعادوا تكليف أنفسهم متناسين أنهم كانوا ظلا لزعيمهم المخلوع . وما تلطيف وجه الحكومة بإضافة أسماء أنصاف معارضين إلى تشكيلتها سوى تلطيف لمشروع ثورة مضادة لثورة الياسمين . الجيل التونسي الجديد بما فجره من طاقات نضالية هائلة وما أظهره من استعداد لا حدود له للتضحية هو وحده صاحب الحق في الادعاء بأنه مفجّر ثورة الياسمين ، ومعه في ذلك الاتحادات المهنية والمنظمات العامة غير الحكومية التي استيقظت وأيقظت الحياة العامة في الدولة بعد السبات العميق للسياسة والحركة المطلبية فيها. هؤلاء أعادوا الأمل ليس لتونس وحدها ، إنما لنا جميعا بعدما ترسخ الانكسار فينا وماتت الروح ، والأهم أنهم أعادوا الاعتبار لقيمة الإنسان . هم كانوا التنظيم الحقيقي والماء الذي سقى الياسمين حتى يفتح ويزهر، ومن حقهم إذاً أن تكون لهم الكلمة الفصل في شكل الدولة المقبلة ، وإلا تذهب تضحياتهم هباء أو تترك لدهاقنة السياسة وانتهازييها ركوب موجتها للمتاجرة بها على عتبات المناصب والحصص . وحتى لا ترتد ثورة الياسمين على أصحابها مثلما حدث في ثورات الورود الأخرى ، وحتى تكون مثالا صالحا يحتذيه الآخرون الذين لا يزالون يعانون مثلما عانى التونسيين وأكثر ، يتعين الحفاظ على زخمها وصولا إلى إرساء حكم ديمقراطي يليق بطموحات المنتفضين وبما بذلوه ، ذلك أن إطاحة نظام قمعي لا تضمن بالضرورة الاستقرار أو الحريات أو الحكم الأفضل ، بل تشكل فرصة يتعين تطويرها للوصول إلى الأحسن . * صحيفة " النهار " اللبنانية